الأحد، 07 ديسمبر 2025

06:42 م

فئران تجارب

كما أن الحاجة هي أم الاختراع، فالتجربة هي بوابة الوصول، ومن أجل الوصول لا بد من خوض المعارك، والمعارك نخوضها يومياً دون أن ندري، نخوضها وتظن أنك تمضي قدماً في حياتك العادية بإرادتك، تخوض معارك دون أجر..... معارك ليست من أجلك.

دائماً ما كنا نسمع عن التجارب السريرية، وهي دراسات بحثية تُجرى على البشر لتقييم سلامة وفعالية العلاجات الجديدة، مثل الأدوية أو الأجهزة أو التدخلات السلوكية، وتبدأ هذه التجارب بعد التأكد من سلامة العلاج في الأبحاث المختبرية والحيوانية، وتمر بمراحل متعددة تُقيّم خلالها آثارها الجانبية والفعالية، وقد تستمر لتشمل آلاف المرضى قبل الموافقة على التسويق، وتُعد التجارب السريرية ضرورية لتطوير علاجات ووقاية أفضل، وتُجرى في المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية تحت إشراف دقيق.

ويستلزم لإجرائها المرور بعده خطوات أو مراحل إجرائية مثل، الموافقة المستنيرة: يجب أن يوافق المشارك عن وعي وبكامل إرادته على المشاركة بعد فهم جميع جوانب التجربة، بما في ذلك المخاطر والفوائد المحتملة، ويحق للمشارك الانسحاب من التجربة في أي وقت، وله أن يُنصح بالتحدث إلى الطبيب الخاص لمعرفة ما إذا كانت هناك تجربة سريرية مناسبة وخوض مناقشة حول المخاطر والفوائد المحتملة، وله أن يطرح أسئلة على طبيبه عن مدة التجربة، وعدد مرات الزيارات المطلوبة، والآثار الجانبية المحتملة، وإمكانية الاستمرار في العلاج بعد انتهاء التجربة، ويضاف عليهم في بعض الحالات العائد المادي، وهو لا يكون بالقليل، بل في بعض الحالات تجد أشخاصاً يسعون خلف إجراء التجارب الطبية الخطرة لعظم العائد المادي مثل بيع الدم أو الأعضاء.

ولكن ما نراه الآن أننا كلنا أصبحنا فئران تجارب في الحقل الافتراضي، تُجرى علينا التجارب بمعرفة الوسيط، ويكون هذا الوسيط هو البلوجر، سواء كان فوود بلوجر أو فاشون بلوجر أو ميديكال بلوجر، وقد يكون الوسيط هو الطبيب نفسه أو صاحب المطعم نفسه أو الترزي عموماً.

ولكن لا بد وأن نتوقف عند الفوضى الطبية الافتراضية التي نراها اليوم، وهي تنقسم إلى قسمين، القسم الأول وهو الإعلانات بالشوارع التي تحمل صورة الطبيب فقط وبالبنط الصغير اسمه وتخصصه وكأنه نجم سينمائي، يروج لجماله وشياكته لا لمنتجه الخاص به وهو الطب والعلم، وكأن المواطن حين يرى الإعلان لهذا الفنان الوسيم سيذوب في جماله وشياكته ويسارع بحجز كشف مستعجل ليشفى بمجرد رؤية هذا النجم الخطير، وهنا الطبيب لا يبيع سلعته وهي الطب ولكنه يبيع نفسه كسلعة.
والقسم الثاني هو الإعلان عن نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات تحمل آراءه الشخصية عن الطب وتجارب يرغب في تحقيقها من خلال عدد المتابعين له، وهنا أصبح المتابعون له عبارة عن فئران تجارب، وهنا لا نعمّم، فبالتأكيد يوجد العديد والعديد من كبار الأطباء المشهود لهم بالكفاءة والضمير.

والمثير للدهشة أكثر هو حديث العامة من البلوجر عن الأمور الطبية، فتجد أشخاص ما أنزل الله بهم من سلطان ممن لا مهنة لهم سوى عمل الفيديوهات وانتظار "التكبيس" للحصول على الأموال السريعة الدافئة، يتحدثون عن تركيبات طبية للتخسيس ونضارة البشرة وصحة الشعر والخصوبة وطراوة الجلد، وحلاوة الفيتامينات وشهامة الأعشاب وسحر الكريمات.

تجد الأمر في البداية يبدأ من شخص واحد أو معلومة مجتزئة مبتورة يهرع خلفها كل البلوجرية (نسبة إلى البلوجر وهي مفرد بلوجرز في لغة الأرب فرانكو وليس الفرنكو أرب) ليكون هو الأول والأسرع للحصول على جائزة الناشر الأول من هيئة الترند الدولية أو جائزة التطبيق التشجيعية لأول هاشتاج، ثم يليه كل الراغبين واللاهثين في ركوب هذا الترند، دون تدبر في صحة المعلومة ودقتها فيكفي التأكد من هذا هو الترند الرابح.

حتى أنه في بعض الحالات أجد سيدات تعلق بصوتها على فيديو طبخ أجنبي، أوربي أو صيني أو حتى خليجي، والفيديو بالكامل ليس لها ولا لمطبخها ولم تضع يديها في فص ثوم واحد وتتحدث كأنها أبلة نظيرة أو السيدة منى عامر، كل ذلك رغبة في ركوب الترند بشيء لا تجيد تنفيذه ولا تعلم عنه شيء.
ألم تلاحظ يا عزيزي مع مرور الزمن أن تركيبة التوابل التقليدية المصرية قد تغيرت وأصبحت الأكلة التي كانت تطهيها الجدة أو الأم مستخدمة نوعين أو ثلاث من التوابل على الأكثر تطورت إلى العديد والعديد من التوابل، مثل السبع توابل والبابريكا بأنواعها، وأصبح الطعم تائها وسط محل العطارة المفتوح في الطبخة؟! هل لاحظت إعلانات المأكولات وفوائدها والتوابل وعظمتها وبعد عدة سنوات تجد نفس الدولة أو المصنع أو نفس الهيئة التي منحت التصريح الصحي للمنتج، تخرج عليك وتقول إن المركبات ثبت عدم صحتها وسيتم تغيره للأفضل؟! 

عودة للشأن الطبي، فيصبح كل التابعين (تابعين = فولورز) فئران تجارب لتركيبة مقاومة الأنسولين وتجارب نعومة الشعر، وطعم الأعشاب الهندية المقدسة، دون أن تتكلف الشركة الراعية أي مقابل مادي للمُجرب!!!!!

لحظة من فضلك؟! ولماذا يدفع البلوجر للتابع؟ لا يا عزيزي ما هذه الحلقة المفقودة!
البلوجر مسيّر وتابع أمين لمن يجلب له الأموال وهو الترند، هل سألت نفسك يوماً من هو صانع الترند الأصلي؟ إنها الخوارزميات التي يتحكم فيها كبار التجار ورجال الاعمال والشركات، فالاقتصاد هو الذي يحكم العالم وليس الجيوش، التجارة هي المحرك الأساسي لكل الغرائز والشهوات التي تقود المواطن العالمي نحو شراء منتج ما هو لا يحتاجه، ولكن يصور له ذهنيا أن حياته سوف تقف وتذبل وتموت إذا لم يقم بشراء البطة الصفراء برائحة النعناع والليمون أو قشارة البطاطس السحرية.... فتجد نفسك فأر تجارب للتركيبات الطبية والعشبية وفأر تجارب لوصفات طعام عجيبة وفأر تجارب لمنتجات، فمن الممكن أن نجد أن ميزانيات الأبحاث في الشركات الكبرى قد توجهت إلى قسم التسويق والمبيعات لإجراء إعلانات في الواقع الافتراضي أكثر للحصول على مشترين جدد وكُثر لتجربة المنتج، فمنها تجربة ومنها بيع، لم يخسر التاجر والمُعلن هنا شيء، بل مكاسب جمة فقط، بينما أنت الخاسر الأكبر صحياً ومالياً دون تعويض أو حتى إمكانية اللجوء قضائياً على أحد.

وتعود النتائج والإحصائيات من الواقع الافتراضي إلى مكاتب الشركة لمعرفة عدد المؤيدين للمنتج وعدد الرافضين وأماكن الازدحام وتوقيت الشراء وهل تم الإقبال المطلوب أم لا، دون الاهتمام بصحة أحد.
الأهم هو جني الأموال للشركة والتكبيس للبلوجر والأدوية والقروض لك أنت يا عزيزي.

title

مقالات ذات صلة

ثمن القيمة

29 نوفمبر 2025 08:30 ص

ماذا عن مزاجنا العام؟!

22 نوفمبر 2025 08:30 ص

جلابية بارتي

15 نوفمبر 2025 08:30 ص

الفطرة والقانون

07 نوفمبر 2025 09:38 م

search