الثلاثاء، 23 ديسمبر 2025

04:12 م

"الكتاب الأبيض" عندما ترسم مصر سياسة الاتزان في زمن الاختلال

في زمن تبدو فيه المنطقة وكأنها تتحرك بلا بوصلة، وتدار فيه الأزمات بمنطق اللحظة ورد الفعل، اختارت الدولة المصرية أن تكتب، لا أن تصرخ، فجاء "الكتاب الأبيض" الصادر عن وزارة الخارجية ليضع أمام الرأي العام، والنخب السياسية والفكرية قبل غيرهم، تصوراً واضحاً لكيف ترى مصر نفسها في عالم مضطرب، وكيف تريد أن تتحرك وسط هذا الاضطراب، والأهم: كيف تتجنب أن تُسحب إلى معارك لم تخترها، ولا تخدم مصالحها؟

الكتاب لا يرفع شعارات جديدة، ولا يقدم نفسه كبيان تعبوي، ولا يحاول تسجيل مواقف صاخبة. على العكس، يراهن على فكرة تبدو للوهلة الأولى هادئة أكثر من اللازم في إقليم صاخب. "الاتزان" وهي كلمة قد لا تُغري من اعتادوا السياسة بوصفها استقطاباً حاداً أو صداماً مفتوحاً، لكنها في الواقع واحدة من أكثر الكلمات صعوبة في التطبيق، وأعلى كلفة في الالتزام.

الاتزان، كما يقدمه الكتاب، ليس حياداً سلبياً، ولا انسحاباً من المشهد، ولا جلوساً على الهامش انتظاراً لانتهاء العاصفة. هو إدارة واعية للتناقضات، وحضور محسوب في لحظة تميل فيها المنطقة إلى الاندفاع. أن تكون الدولة موجودة دون تهور، ومؤثرة دون استعراض، وقادرة على المناورة دون أن تفقد ثوابتها أو تُستدرج إلى خيارات مغلقة.

ومن دون أن يقول ذلك صراحة، يبعث الكتاب برسالة شديدة الوضوح: أخطر ما تواجهه الدول في هذه المرحلة ليس العداء المباشر، بل الانجراف غير المحسوب خلف محاور واستقطابات صُنعت لخدمة مصالح ضيقة، ثم جرى تسويقها بوصفها خيارات مصيرية. كثير من الدول دفعت أثمان هذا الانجراف، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، واكتشفت متأخرة أن الاصطفاف الحاد يضيق هامش الحركة أكثر مما يوسعه.
لا يمكن قراءة الكتاب الأبيض بمعزل عن لحظته التاريخية؛ فهو يصدر في سياق إقليمي شديد التعقيد: حرب ممتدة في غزة، تصعيد على حدود أكثر من دولة، أزمات اقتصادية عالمية متلاحقة، وتراجع ملحوظ في فعالية النظام الدولي وآلياته التقليدية. في مثل هذا السياق، لا يعود الاتزان ترفاً سياسياً، بل خياراً استراتيجياً يهدف إلى تقليل الخسائر في عالم لم يعد يضمن لأحد مكاسب طويلة الأمد.

مصر، كما يعكس الكتاب، لا تريد أن تكون طرفاً في صراعات صفرية، ولا أن تدفع ثمن حسابات الآخرين، لكنها في الوقت ذاته ترفض الغياب أو الانكفاء. المعادلة صعبة، وربما تبدو غير مُرضية لعشاق المواقف الحادة، لكنها معادلة ضرورية لدولة تدرك حجمها، وتعي موقعها، وتفهم حدود القوة وحدود المغامرة.

اللافت أن الوثيقة لا تتعامل مع الاتزان باعتباره تكتيكاً مؤقتاً أو رد فعل على أزمة بعينها، بل تطرحه كمنهج دائم لإدارة السياسة الخارجية. توازن في العلاقات مع القوى الكبرى، وتوازن في التعاطي مع أزمات الجوار، وتوازن بين متطلبات الأمن القومي وضرورات الاستقرار الإقليمي. فالرسالة هنا واضحة؛ الدولة لا تبحث عن انتصارات سريعة، بل عن قدرة مستدامة على الاستمرار.
ومن بين أهم ما يمكن قراءته بين السطور، ذلك الربط العميق بين الداخل والخارج. فالكتاب يلمح، دون مباشرة، إلى حقيقة باتت معروفة: لا اتزان خارجي بلا جبهة داخلية مستقرة، ولا سياسة خارجية رشيدة دون حساب دقيق لتأثيرها على الاقتصاد، والأمن المجتمعي، وفرص التنمية. الأمن القومي، كما يقدّمه الكتاب، مفهوم شامل لا يُختزل في الحدود أو السلاح، بل يمتد إلى الطاقة والمياه والغذاء والاستقرار الاجتماعي.
في هذا الإطار، يمكن فهم حرص الدولة على تجنب التصعيد، والدفع باتجاه التهدئة، والقيام بأدوار الوساطة، ليس باعتبارها أدواراً أخلاقية أو إنسانية فقط، بل بوصفها خيارات عملية لتقليل المخاطر في بيئة إقليمية مشتعلة. فالمنطقة، كما يعترف النص ضمنياً، لم تعد تحتمل مغامرات كبرى، ولا حسابات قائمة على منطق "الكل أو لا شيء".
كما يعكس الكتاب وعياً متقدماً بتحولات النظام الدولي. عالم القطب الواحد لم يعد قائماً، والتنافس بين القوى الكبرى بات أكثر سيولة وأقل انضباطاً. في مثل هذا العالم، يصبح الاتزان سياسة دفاعية بقدر ما هو خيار هجومي محسوب، يسمح للدولة بأن تحمي مصالحها دون أن تضع نفسها في مواجهة مفتوحة مع الجميع، أو في تبعية صامتة لأحد.
الكتاب الأبيض لا يدعي الكمال، ولا يقدم وصفة جاهزة لكل الأزمات، لكنه يطرح منطقاً واضحاً؛ في زمن الفوضى، تصبح الحكمة في تقليل الخسائر قبل البحث عن المكاسب. وربما تكون هذه هي الرسالة الأهم التي تسعى الوثيقة إلى ترسيخها، ليس فقط لدى الشركاء في الخارج، بل لدى الرأي العام في الداخل أيضاً.
في لحظات الاضطراب الكبرى، لا تعلن الدول أفكارها بصوت مرتفع، بل تكتبها بهدوء. ومصر، كما يعكس هذا الكتاب، اختارت أن تتحرك بعقل بارد في زمن ساخن، وأن تراهن على السياسة بوصفها فن الممكن، لا استعراض الممكن، وهو رهان قد لا يكون الأكثر شعبية، لكنه – في عالم مختل – قد يكون الأكثر عقلانية.
والكتاب الأبيض، وهو يطرح مفهوم الاتزان بهذه الصيغة، لا يسعى إلى إغلاق النقاش بقدر ما يفتحه على أسئلة مشروعة وضرورية. هل ينجح هذا الاتزان في حماية المصالح الوطنية وسط تصاعد الاستقطاب الإقليمي والدولي؟ وإلى أي مدى يمكن الحفاظ على هذا التوازن مع اشتداد الضغوط وتغيّر موازين القوى؟ ثم كيف يمكن ترجمة هذه الرؤية العامة إلى سياسات أكثر وضوحاً وشفافية، وقابلة للتقييم والمساءلة؟
الكتاب لا يقدّم إجابات نهائية، ولا يعد بحلول سهلة، لكنه يطرح منطقاً واضحاً في لحظة عالمية ملتبسة: في عالم مضطرب، أخطر القرارات هي تلك التي تُتخذ بلا اتزان. ومصر، كما تعكس الوثيقة، اختارت أن تمشي على حافة صعبة، لكنها محسوبة؛ لا انخراط أعمى في صراعات الآخرين، ولا عزلة مريحة عن محيط مضطرب، بل حضور مدروس، وتأثير هادئ، وثبات بلا صخب. وهو اختيار قد لا يرضي أنصار السياسات الحادة، لكنه يعكس فهماً واقعياً لطبيعة اللحظة، ورهاناً على العقل في زمن يميل إلى الاختلال.

search