وداعاً داود عبد السيد.. فيلسوف السينما المصرية
لم يكن داود عبد السيد مخرجاً يبحث عن التصفيق، ولا سينمائياً يطارد الشباك، بل كان عقلاً قلقاً يسكنه سؤال قديم عن الإنسان، وعن معنى أن نحيا وسط عالم يبدو مرتباً من الخارج، ومفككاً من الداخل. رحل عن عالمنا داود عبد السيد، لكن ما تركه خلفه لا يمكن أن يُختصر في قائمة أفلام، ولا في جوائز، ولا في أرقام حضور، بل في طريقة خاصة لرؤية العالم، طريقة لا تُدرَّس في معاهد السينما، ولا تُستنسخ، ولا تُقلَّد.
منذ بداياته، بدا واضحاً أن داود عبد السيد لا يتعامل مع السينما باعتبارها حكاية تُروى، بل باعتبارها فكرة تُفكك. أبطاله ليسوا أبطالًا بالمعنى التقليدي، ولا مهزومين بالكامل، بل كائنات معلقة بين الرغبة والعجز، بين الحلم والواقع، بين ما يقال وما لا يُقال. هو مخرج آمن بأن الصمت أحياناً أبلغ من الحوار، وأن اللقطة الثابتة قد تكون أصدق من خطاب كامل، وأن الكاميرا ليست عيناً محايدة، بل ضميراً يراقب.
في أفلامه، لا شيء يحدث مصادفة؛ حتى العبث يبدو محسوباً، وحتى الفوضى لها منطقها الداخلي. "الكيت كات" لم يكن فيلماً عن حي شعبي بقدر ما كان تأملاً في العمى الوجودي، و"أرض الخوف" لم يكن حكاية مخبر يتسلل إلى عالم الجريمة، بل رحلة إنسان يفقد يقينه تدريجياً، حتى لا يعود يعرف في أي جانب يقف، و"رسائل البحر" لم يكن قصة حب، بل عزلة طويلة لرجل قرر أن ينسحب بهدوء من صخب العالم.
عبقرية داود عبد السيد لم تكن في امتلاكه إجابات جاهزة، بل في إصراره على طرح الأسئلة؛ فكان منحازاً للشك، ومخلصاً للحيرة، ومؤمناً بأن الفن الحقيقي لا يواسي، بل يربك. لذلك لم تكن أفلامه سهلة، ولم تحاول أبداً أن تكون كذلك. هو لم يخاطب الجمهور باعتباره مستهلكاً، بل شريكاً في التفكير، وربما في القلق أيضاً.
وكان الأهم أنه لم يخن نفسه؛ في زمن التسويات، ظل داود عبد السيد وفياً لنبرته الخاصة، لا يرفع صوته، ولا يساير موجة، ولا يلهث خلف رواج. اختار أن يقلّ، بدل أن يكرّر، وأن يصمت أحياناً، بدل أن يقول ما لا يؤمن به. وهذه شجاعة لا تقل قيمة عن أي مغامرة فنية.
رحل داود عبد السيد، لكن سينماه ستبقى كأنها مرآة موضوعة في زاوية الغرفة، لا نلتفت إليها كل يوم، لكنها حين نراها، نكتشف أشياء في وجوهنا لم نكن نلاحظها من قبل. هو واحد من هؤلاء القلة الذين لا يُقاس حضورهم بعدد الأعمال، بل بعمق الأثر، ولا يُرثون بالضجيج، بل بالتأمل.
وداعاً داود عبد السيد…
كنت مخرجاً يعرف أن السينما، في جوهرها، ليست حكاية تُحكى، بل سؤال يُترك مفتوحاً
الأكثر قراءة
-
هل يوم الخميس القادم إجازة رسمية في مصر؟
-
توقعات الأبراج اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025، هناك فرص كثيرة متاحة
-
وداعاً داود عبد السيد.. فيلسوف السينما المصرية
-
نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 في جولة الإعادة بسوهاج
-
نماذج امتحان حاسب آلي للصف الأول الإعدادي الترم الأول بالإجابات 2025-2026
-
"اتجوزت 4 مرات ومعايا إعدادية".. نص التحقيقات مع البلوجر نورهان حفظي (خاص)
-
الحصر العددي لأصوات الدائرة الأولى بالفيوم، محمد فؤاد زغلول يتصدر
-
انقلبت بها السيارة، وفاة المستشارة سهام الأنصاري بعد انتهاء فرز الأصوات بقنا
مقالات ذات صلة
"الكتاب الأبيض" عندما ترسم مصر سياسة الاتزان في زمن الاختلال
22 ديسمبر 2025 04:28 م
الأسئلة العشرة التي تكشف ما جرى في الدوائر الـ19
08 ديسمبر 2025 04:11 م
47 دائرة ملغاة.. فهل نقترب من الإلغاء الكامل للانتخابات؟
30 نوفمبر 2025 06:00 م
29 نوفمبر تضامن سنوي.. وإبادة مستمرة!
28 نوفمبر 2025 02:16 م
أكثر الكلمات انتشاراً