
على أطراف الذاكرة.. عطر لا يزول
لرائحة الماضي أثرٌ لا يُمحى. ليست مجرّد ذكرى عابرة، بل حضورٌ خفيّ يتسلّل إلينا دون إذن، عبر عطرٍ قديم، نغمة مألوفة، صورة باهتة، أو حتى ملمس قماشٍ كان لنا يومًا. لحظة واحدة كفيلة بأن توقظ في داخلنا عالمًا نائمًا، بكل ما فيه من فرحٍ ووجعٍ وحنين.
كنت أرتّب أشياء المنزل القديم بعد سنوات من الغياب، حين سقطت من بين الكتب ورقة صغيرة، صفراء الأطراف، مكتوب عليها بخطّ أمي: “لا تنسي أن تبتسمي، فكل شيء يمرّ”.
ابتسمت… ثم بكيت.
هي الجملة نفسها التي كانت تهمسها لي صباح كل امتحان، وكلما بكيت من خسارة أو فشل. رائحة الورقة، رائحة الكتب، وحتى الغبار الذي تراكم فوق الأرفف، أعاد إليّ مشاهد كثيرة دفنتها الحياة تحت ركضها.
ثم حدث ما لم أتوقّعه…
فتحت أحد الأدراج القديمة، فهبّت رائحة عطرٍ قديم كانت أمي تستخدمه. لم يحتج الأمر أكثر من لحظة، حتى وجدت نفسي أمام مرآة غرفتها، أجلس طفلة صغيرة تضحك وهي تحاول رفع شعرها، وأمي تقف خلفي، تضحك بدورها، وتعيد ترتيب كل شيء بحب وصبر.
تلك اللحظة… لم تكن مجرد ذكرى، بل عودة روحية مفاجئة لمكان وزمن لا يُنسى.
أتذكّر أيضًا “مها”، زميلتي في الجامعة، التي كانت تطارد حلمها في التمثيل رغم سخرية الجميع. كانت تقول لي: “أنا مش عايزة أبقى نجمة… أنا عايزة أبقى صوت الناس اللي صوتهم مش مسموع”.
كافحت كثيرًا، حتى جاءتها الفرصة المنتظرة، لكن أحدهم استغل سلطته وحطّم الطريق أمامها، فقط لأنها لم تساير رغباته. اختفت “مها” فجأة، واختفت معها ابتسامتها، لكن صوتها لا يزال حيًّا في داخلي… ورائحتها، عطر الفانيليا الخفيف الذي كانت تضعه كل صباح، ما زال يوقظ فيّ الحلم المؤجل.
رائحة الماضي لا تأتي فقط بالعطر والموسيقى، بل تأتي أحيانًا بنغزات في القلب، بحنين لضحكة صافية، أو حضن دافئ. قد تُبهجنا، أو تُنهكنا، لكنها أبدًا لا تتركنا كما نحن.
ذات يوم، التقيت سيدة مسنّة في أحد المقاهي، كانت تحدّق في الفراغ وتبكي. سألتها بلطف: “هل أنت بخير؟”.
أجابتني والدمع يترقرق في عينيها: “هذا المقهى كان المكان المفضّل لي ولزوجي… توفّي منذ عشر سنوات، لكن رائحته لا تزال هنا”.
جلستُ بجانبها طويلاً، ولم أقل شيئًا. فقط كنت أصغي، وأفهم جيدًا ماذا تعني “رائحة الماضي”.
إن الماضي ليس شريرًا بطبعه، ولا عدوًا للحاضر، بل هو المعلم الأصدق، يأتي حاملاً بين يديه رسائل خفيّة، نمرّ عليها بسرعة، لكنها تبقى قادرة على أن تُغيّر فينا الكثير
في النهاية…
رائحة الماضي لا تختفي. تعيش معنا في الصمت، في التفاصيل الصغيرة، في ما نظنّ أننا نسيناه.
ولعلها تهمس لنا دائمًا: “لا بأس… كل شيء يمرّ، لكن الذكرى الطيبة تبقى، ما دام القلب ينبض”.

الأكثر قراءة
-
الدقائق الأخيرة مع الأم.. سائق "أوبر" يفارق الحياة أثناء عمله
-
7 حالات للطرد الفوري في قانون الإيجار القديم
-
قصة كفاح تنتهي بمأساة.. شاب يرحل صعقا بالكهرباء أثناء عمله في أسيوط
-
بعد دعم تامر حسني.. دينا فؤاد: سرطان الثدي تملكني بعد تشخيص خاطئ
-
فيديو يرصد آخر 30 ثانية قبل "فرم وتسييح" إسورة المتحف المصري
-
يانهار إسود.. زاهي حواس يعلق على بيع إسورة أثرية ملكية بـ 180 ألف جنيه
-
السيسي يوافق على اتفاق بين مصر والإمارات لتجنب الازدواج الضريبي
-
بعد تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل والموبايل".. من يضع الآخر في يده؟

مقالات ذات صلة
حين يُثبت المجهولون أن الخير لا يموت
14 سبتمبر 2025 02:52 م
الانفصال الصامت.. وجع وموت بطيء
06 سبتمبر 2025 02:51 م
تحت حصار الجوع.. حكاية أم من خان يونس
01 سبتمبر 2025 03:05 م
ابتسامة معلّقة على صورة قديمة
31 أغسطس 2025 12:28 م
الحب في زمن الكلينكس.. مشاعر للاستعمال مرة واحدة
22 أغسطس 2025 01:43 م
مطاردة في طريق الواحات.. حين تصبح القيادة للمرأة معركة بقاء
15 أغسطس 2025 03:44 م
علاقات باردة تحت شمس الظهيرة.. حين تبدو الحياة مستقرة لكنها تخلو من السعادة
09 أغسطس 2025 06:22 م
حين يصبح الحب معركة إثبات لا مساحة أمان
02 أغسطس 2025 05:39 م
أكثر الكلمات انتشاراً