السبت، 24 مايو 2025

08:44 ص

"الجغرافي الدولي".. حدث أكاديمي ضخم وقف في الظل!

في الوقت الذي تتصارع فيه الدول على استضافة الفعاليات الدولية الكبرى لتعزيز نفوذها الأكاديمي ومكانتها الحضارية، مرّ حدث استثنائي في القاهرة مرور الكرام، دون تغطية إعلامية تليق به أو اهتمام مؤسسي يوازي رمزيته، إنه مؤتمر الاتحاد الجغرافي الدولي (IGU) الذي عاد إلى مصر بعد مئة عام كاملة من آخر انعقاد له في قلب العاصمة سنة 1925، ليتحول –رغم قيمته العلمية والرمزية– إلى "فرصة ضائعة" حقيقية.

حينما تحتضن القاهرة مؤتمرا علميا عالميا بهذا الحجم، تنظمه واحدة من أعرق المؤسسات الجغرافية في العالم – الجمعية الجغرافية المصرية– وتحت رعاية رئاسة الجمهورية، فإن الأمر يتجاوز حدود اللقاء الأكاديمي، نحن أمام حدث دولي يعكس موقع مصر العلمي والثقافي، ويعيد وصل حاضرها بماضيها الجغرافي المجيد.

لقد جاء مؤتمر IGU في أبريل 2025 بعنوان "التقنيات الجيو-مكانية التغيرات العالمية والاستدامة"، بمشاركة أكثر من 14 لجنة علمية متخصصة من مختلف القارات، تشمل مجالات الجغرافيا السياسية، البيئية، الاقتصادية، والحوكمة، والخرائط، والتغير المناخي، والموارد الطبيعية، والتنمية في إفريقيا والشرق الأوسط.

شارك في المؤتمر عشرات العلماء والباحثين من أكثر من أربعين دولة، وطرحت خلال أيامه التي امتدت من 12 إلى 19 أبريل أوراق بحثية نوعية حول أبرز القضايا الجغرافية المعاصرة، من ندرة المياه إلى التغير المناخي، ومن التوسع الحضري إلى التهديدات البيئية العابرة للحدود.

الجلسات العلمية شهدت زخماً معرفياً هائلًا، وتناولت محاور تخصّ حاضر ومستقبل القارة الإفريقية، وأخرى تتعلق بسبل توظيف التكنولوجيا الجغرافية الحديثة في صناعة القرار والتخطيط الحضري، ومع ذلك، ظل هذا الحدث الضخم غائباً عن نشرات الأخبار وصفحات الصحف، في مفارقة صادمة لا تليق بمكانة مصر العلمية ولا بحجم المؤتمر.

تعود جذور الجمعية الجغرافية المصرية إلى عام 1875، وتعد من أقدم المؤسسات العلمية في العالم، وقد شاركت في تأسيس الاتحاد الجغرافي الدولي عام 1923، واستضافت في العام التالي (1925) النسخة الحادية عشرة من مؤتمره في القاهرة، ليكون أول مؤتمر للاتحاد يُعقد خارج القارة الأوروبية.

إن عودة المؤتمر إلى مصر بعد مئة عام من انعقاده الأول ليست مجرد صدفة زمنية، بل هي اعتراف بجهود الجمعية في الحفاظ على إرثها العلمي، وبمبادرة الأساتذة والباحثين الذين سعوا لإعادة مصر إلى الساحة الجغرافية الدولية، وقد جاء المؤتمر هذا العام تكريمًا لرموز مثل الراحل الأستاذ الدكتور صلاح عيسى، وجهود رئيس الجمعية الحالي الأستاذ الدكتور محمد السديمي، وسكرتيرها العام الدكتور إسماعيل يوسف، وأحد أعضائها البارزين الدكتور عطية الطنطاوي عميد كلية الدراسات الإفريقية ومقرر لجنة الجغرافيا والبيئة بالأعلى للثقافة.

البرنامج العلمي للمؤتمر جاء محكمًا ومنوعًا، حيث نُظمت جلسات متزامنة في مواقع متنوعة مثل فندق تريومف بلازا، الجامعة الفرنسية، قناة السويس، الأهرامات، والمتحف الكبير، إلى جانب رحلات علمية إلى العاصمة الإدارية والفيوم والإسكندرية والصعيد.

لكنّ ما يثير الاستغراب، بل والقلق، هو غياب التمثيل الرفيع من الجامعات المصرية والمؤسسات البحثية الكبرى، وعدم إدراج المؤتمر ضمن أولويات، كما لم يُستثمر وجود هذا الحشد الدولي من الخبراء للترويج للسياحة العلمية أو لفتح شراكات أكاديمية جديدة بين الجامعات المصرية ونظيراتها حول العالم.

مكاسب كان يمكن تحقيقها... لكنها ضاعت

 لقد كان من الممكن أن يُستثمر المؤتمر في: إطلاق مبادرات تعليمية لدمج الجغرافيا التطبيقية في المناهج، الترويج لمصر كوجهة للبحث العلمي والسياحة المعرفية، تحفيز الباحثين الشباب وإبراز مشاريعهم أمام لجان دولية مرموقة، ترسيخ حضور مصر كدولة فاعلة في صناعة المعرفة الجغرافية عالمياً، لكن للأسف، غابت تلك الرؤية الاستراتيجية، وظل المؤتمر حدثاً أكاديمياً ضخماً يقف في الظل، بينما تسابقت الدول الأخرى إلى الفضاءات الإعلامية لاحتلال مواقع الريادة.

من الضروري أن تتعامل المؤسسات الإعلامية المصرية مع الفعاليات العلمية الكبرى كجزء من أولوياتها الاستراتيجية، تمامًا كما تفعل مع الأحداث السياسية والاقتصادية والرياضية، ولتفادي تكرار تجاهل مؤتمرات دولية بحجم مؤتمر الاتحاد الجغرافي، يُقترح إنشاء وحدة تنسيق دائمة بين وزارات التعليم العالي والثقافة والإعلام والجمعيات العلمية، مهمتها إعداد خطط ترويجية مسبقة للمؤتمرات والندوات الدولية، تشمل إنتاج محتوى إعلامي مرئي ومكتوب، وتكليف فرق صحفية مختصة بالتغطية الميدانية، إلى جانب إدماج تلك الفعاليات ضمن خريطة البرامج التليفزيونية الحوارية والثقافية. إن تحويل الحدث العلمي إلى قصة إعلامية جاذبة للجمهور هو مفتاح رئيسي لتعزيز الوعي المجتمعي بقيمة المعرفة، وإعادة الاعتبار للعلم والعلماء في وجدان الأمة.

لم يكن التجاهل الإعلامي هو الخلل الوحيد، بل إن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ارتكبت خطأً كبيرًا بعدم مشاركتها الفاعلة في هذا الحدث الدولي الذي يمثل فرصة نادرة لتعزيز الحضور الأكاديمي لمصر على الساحة العالمية، فقد كان من المنتظر أن تتصدر الوزارة المشهد، سواء من خلال دعم اللجان التنظيمية، أو عبر تكليف الجامعات الحكومية والخاصة بإيفاد وفود علمية لحضور الجلسات والمشاركة بالأوراق البحثية، أو على الأقل عبر توفير منصة رسمية لعرض إنجازات مصر في مجال الجغرافيا التطبيقية.

لقد عادت القاهرة لتستضيف مؤتمر الجغرافيين العالميين بعد غياب قرن كامل، في مشهد تاريخي لم يتكرر في عواصم كثيرة، لكنه، ويا للمفارقة، لم يحظَ بما يستحق من احتفاء أو تغطية.  فهل نعيد الاعتبار لهذا الحدث؟ أم نتركه مجرد رقم في سجل المؤتمرات... لا يذكره أحد؟

search