
حمّام زاهي حواس | خارج حدود الأدب
ما زال مساء الاثنين 16 سبتمبر 2002 عالقًا في ذهني، حينما كنتُ أنتظر أمام التلفاز مع عائلتي بشغف ولهفة. كنتُ أتخيّل وقتها أن الشعب المصري على موعد مع كشف أثري معجز، يحدث لأول مرة في بث مباشر على الهواء عبر القناة المصرية الأولى. طال الانتظار، وزاد التوتر، حتى ظهر بعد منتصف الليل العالِم الأثري الأول في مصر على التلفاز بقبعته الشهيرة، يُحدّث الملايين عن الكشف المنتظر، في ليلة كانت تحمل العنوان: "مباشر من الهرم؛ كشف الغرفة السرية".
وإن لم تكن تعرف، يا صديقي، فإليك تفاصيل تلك الحادثة. ففي إطار العمليات الاستكشافية المتواصلة لممرات التهوية في الهرم الأكبر، تم تطوير روبوت صغير يحمل عدسة تصوير ويدعى "Pyramid Rover"، ويتم التحكم به عن بُعد لاستكشاف تلك الممرات. وفي نهاية أحد الممرات المرتبطة بغرفة الملكة، تم اكتشاف باب حجري صغير مزوَّد بمقابض نحاسية. فتم الاتفاق على استخدام الروبوت المذكور لثقب هذا الباب وتصوير ما خلفه، على أمل أن تكون خلف هذا الباب إحدى الأسرار التي ما زال يحفظها هذا الهرم.
تأخر الوقت لبدء تنفيذ العملية، وسط تعجُّب المشاهدين من سر التأخير، وربما أرجعوه في ذلك الوقت إلى مدى تعقيد العملية ودقتها. وبعد ساعات، بدأ الحدث في الثانية تقريبًا من صباح الثلاثاء 17 سبتمبر، واستمر قرابة ثلاث ساعات، لتُعلن عدسة الروبوت عن خيبة أمل كبرى، وضياع ليلة في انتظار اللا شيء؛ فمن وراء الباب المزعوم لم يكن هناك سوى حجر آخر.
وبعد سنوات، عرفت أن التأخير في تنفيذ المهمة لم يكن بسبب التعقيد أو الدقة، بل كان لاتفاق على بث حي متزامن للحدث على قنوات ناشونال جيوغرافيك وفوكس العالمية، وكان هذا التوقيت هو الأنسب لهم، لكي تتابع أمريكا الكشف العظيم على الهواء. وذهب الحدث برمّته إلى طيّات النسيان، وسط ردود أفعال تراوحت بين خيبة الأمل والسخط والملل. ولكن لم يبقَ من تلك الليلة سوى الطلّة المسرحية للسيد زاهي حواس، الذي ملأ تلك الليلة صخبًا ووعودًا ومعلومات.
وبعد عقدين من الزمان، أتت الفرصة من جديد للسيد زاهي حواس ليعتلي أهم مسارح ومنابر العصر، في برنامج حواري "بودكاست" مع أحد روّاد تلك البرامج في العالم، "جو روجان"، أهم مقدم بودكاست عالمي، ويكفي أن تعلم أن من ضيوفه السابقين الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب"، والملياردير "إيلون ماسك"، وغيرهم.
واعتلى زاهي حواس المسرح بدون قبعته المعهودة، لكنه كان يرتدي بدلة "طوبية" اللون، ويمسك في يده سيجارًا فخمًا ينفث دخانه على الهواء. وربما كان لون البدلة يقع في إطار الحرية الشخصية والذوق الفردي، لكنّ التدخين على الهواء من أحد علماء المصريات المعدودين على مستوى العالم، في برنامج يتابعه الملايين، فأكاد أجزم أنه كان أمرًا يتنافى مع الذوق العام، والرسالة التي يحملها قدوة مثله لملايين الشباب من المتابعين.
ولكن بعيدًا عن المظاهر، كان محتوى الحلقة كارثيًا بكل المقاييس؛ فبعد سبع دقائق فقط من بداية الحوار، تحدّث حواس عن أن هناك من ادّعى وجود نفق في حمّام بيته يصله مباشرة بالأهرامات، حيث يقوم حواس بتخزين الآثار فيه! وحينها أطلق دعابة غريبة، مطالبًا بإنشاء موقع إلكتروني باسم "حمّام زاهي حواس" لمراقبته ومتابعته.
إضافة إلى ذلك، ذهب حواس إلى اللقاء، الذي كان من المتفق أن يناقش حقائق علمية حول بناء وأسرار الأهرامات والحضارة المصرية القديمة، والنظريات التي قد لا تصبّ في صالح التاريخ والحضارة المصرية، بلا دليل نظري أو عملي واحد، بلا صورة، بلا رسم، بلا نظرية علمية. واكتفى فقط بالاستشهاد بأن ما يقوله مكتوب في كتابه، مما دفع المتابعين للتشكيك في آرائه ونظرياته، واعتبار الحلقة مجرد ترويج لكتابه.
كما شهدت الحلقة صخبًا شديدًا بين الضيف والمضيف، حيث كان يبحث المضيف عن إجابات وحقائق علمية دقيقة بمصادر واضحة، ولم يملك الضيف إلا الإشارة إلى صفحات كتابه "غير الموجود في الحلقة من الأساس". أضف إلى ذلك التهكّم والردود الساخرة – بحسب المتابعين – على أسئلة عن علماء آثار عالميين أمثال "جراهام هانكوك"، وزادت حدّة التوتر مع كثرة مقاطعة حواس لأسئلة جو واعتراضاته، لدرجة أنه حينما وجّه حواس الدعوة لجو لزيارة آثار مصر، ردّ عليه جو بأنه إن كان سيفعل ذلك، فسيكون بصحبة جراهام هانكوك.
كانت الحلقة – في نظر متابعيها – كارثية بكل المقاييس، خاصة لمن كان يبحث عن الحقيقة والأجوبة الموثوقة، لدرجة أن جو، صاحب الحلقة، وصفها بالآتي: "ربما كان هذا أسوأ بودكاست قدّمته على الإطلاق، لكنه ربما كان جيدًا أيضًا.. يكفي رؤية هذا الرجل ضيّق الأفق، الذي كان مسؤولًا عن حراسة كل المعرفة عن مصر".
وأثناء مشاهدتي لهذا الحوار، قفزت إلى ذهني صور ونماذج كثيرة لعلماء وشخصيات بارزة، كانت أعمالهم ومنجزاتهم يشهد لها القاصي والداني، ولكن كانت نقطة ضعفهم الحوارات الصحفية؛ فآفة بعض العلماء ضعف موهبة الحوار والحديث، فقد يكون العالم فذًّا في علمه، لكنه لا يمتلك مهارة الحوار والظهور، وقد يكون مجرد جاهلٍ مُدَّعٍ، وما يفضحه سوى حوار بسيط.
للأسف، أثار الحوار العديد من التساؤلات حول حضارة مصر وتاريخها والقائمين عليها، ومهّد للمتربّصين السبيل لمحاولة النيل منها، ووجّه دعوة صريحة للإعلام لإهالة التراب عن علماء جدد، شباب يتمتعون بلغات حوار العصر والتقنيات البحثية الحديثة، وأنا على يقين أن مصر زاخرة بالعديد منهم. ويجب أن نبتعد كل البعد عن نظريات الفهلوة والهبد والتأليف التي يتبنّاها علماء الكفتة، وذلك قبل أن نجد أنفسنا وتاريخنا في حوار "خارج حدود الأدب".

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
إعلان اتصالات .. بطل من ورق | خارج حدود الأدب
20 مايو 2025 09:55 م
وعد بلفور.. وحرب كشمير | خارج حدود الأدب
10 مايو 2025 09:03 م
"إيه سفن إيه"... يا كورة |خارج حدود الأدب
14 أبريل 2025 01:47 م
(زيادة) ناقصة .. و(غالي) رخيص | خارج حدود الأدب
07 أبريل 2025 01:52 م
أكثر الكلمات انتشاراً