السبت، 07 يونيو 2025

12:14 م

د. أمل منصور
A A

صراع الولاءات العاطفية

في الأعياد لا تُقرع فقط أبواب البيوت، بل تُقرع أبواب القلوب أيضا. ولا تتعالى فقط أصوات التكبير، بل تتصاعد أيضا مشاعر متضاربة في دواخل الكثير من الأزواج والزوجات.

فالعيد ليس مجرد موعد سنوي للتهنئة والزيارات، بل هو لحظة من الشعور بالانتماء والرغبة في أن يشعر كل بيت أن أبناءه ما زالوا أوفياء، وما زال دفء العائلة القديم قائما رغم تحولات الحياة.

لكنه في الوقت ذاته يتحول عند كثير إلى مساحة للصراع الصامت بين دوائر الانتماء المتعددة. ويصبح العيد الذي يفترض أن يكون موسما للبهجة والطمأنينة مسرحًا خفيًّا لصراع الولاءات العاطفية. بين بيت الأهل وبيت الزوج وبيت أهل الزوج. وبين هذه الدوائر توضع القلوب في اختبار عسير بين الولاءات المتضاربة.

مشاعر متشابكة وواجبات متنافرة ومطالب لا تنتهي من الجميع.. لماذا لم تأتم مبكرا؟ ألن تزورينا هذا العيد؟ بيت أهلك ليس أولى من بيتك؟ 
المرأة غالبا في قلب هذه المعادلة تعيش تمزقا داخليا لا يرى. فهي ابنة تحمل في داخلها حنينا. تربّت علي الوفاء لأسرتها الأولى. وزوجة أوكل إليها أن تضع بهجة العيد في بيت جديد ينتظر  منها أن تنحاز لأسرتها الجديدة، عليها أن يصبح أهلها الآن.

كما أنها أصبحت زوجة ابن يطلب منها أن تثبت ولاءها لبيت أهل الزوج لتثبت أنها منهم وليست مجرد ضيفة عابرة... وكل طرف يرى أن له الحق الكامل في وقتها، وعاطفتها ومظاهر فرحتها.
أما الرجل فيبدو ظاهريا أنه الأكثر حرية في الحركة والقرار، وربما لا يتحدّث كثيرا عن تمزقاته. لكنه بدوره يعيش تحت ضغوط غير مرئية، وهو ليس بعيدا عن الصراع بين زوجة تنتظر منه أن ينحاز لها في ترتيب جدول العيد ومراعاة شعورها. 

وأم قد ترى في أي ميل نحو بيت الزوجة خيانة ناعمة، وبالتالي لا بد من إرضاء. والدته. وأب اعتاد أن يكون ابنه موجودا صباح كل عيد إلى جواره، وعائلتين قد لا تكون بينهما ألفة وتفاهم، وفي الوقت ذاته لا بد من موازنة العلاقة بينهما... يجد هنا الرجل نفسه حكما بين ثلاث جبهات عاطفية، كل واحدة منها تطلبه كاملا، ولا تقبل بأنصاف الحلول.
وغالبا ما تختزل المشكلة في الجغرافيا. من سنزور أولا؟ وكم ساعة سنمكث في كل بيت؟ وأين سنقضي الليلة؟ لكنها في أعمق من ذلك بكثير.
المسألة ليست في الوقت بقدر ما هي في ما يرمز إليه الوقت. لمن أعطيت قلبك؟ من الأقرب الآن؟ من أصبحت تعتبره بيتك الأول؟ 
تلك الأسئلة حين لا تقال، تبقى تطنّ في الأجواء وتفرّغ الزيارة من عفويتها. ربما تحولها لاختبار صعب، يراقب فيه الجميع تعبيرات الوجه، وطول المكوث، وهشاشة الأعذار، ليخرج العيد من بهجته ليصبح توزيعا للمشاعر بشكل دبلوماسي.
أحيانا لا يكون الصراع خارجيا فقط بل داخليا كذلك. 
كثير من النساء يشعرن بالذنب مهما كان خيارهن. فإن قضت العيد في بيت الزوج تؤلمها نظرات أمها عند التواصل. وإن عادت إلى  أهلها تخشى أن يظن زوجها أنها لم تندمج بعد في بيتها الجديد، أو أن والدته ستعتبر غيابها نوعا من الجفاء.
هنا يتسلل الشعور بالذنب ويُغلّف العيد بالقلق والتوتر. وكلما حاولت الزوجة أن توازن بين هذه البيوت زاد شعورها بأنها تفشل في منح كل طرف ما يستحق.


وهنا الخطأ الأكبر أن بعض العائلات تتعامل مع العيد كموسم لاختبار المحبة. تفسر الاختيارات تفسيرا خاطئا. لكن الحقيقة أن الحب لا يُقاس بزيارة عابرة، ولا تنتهي المودة بكونك بدأت اليوم من هذا البيت أو ذاك، لأن الحب لا يحتاج إلى دليل كل عيد، بل إلى مسار طويل من العطاء والاحترام والمساندة.
وحين نخضع العيد لمعادلات الإرضاء الكامل، فإننا نحكم عليه بفقد الشعور بالبهجة.
فلماذا لا نتخلى عن فكرة أن العيد مناسبة للمقارنة، بل هو فرصة للتسامح. ولما لا نقدّر ظروف الأبناء والبنات، وأن نفهم أن قلب الإنسان خاصة في علاقاته العائلية ليس مقسوما بالعدل، بل تحكم اللحظة والمزاج والاشتياق والإرهاق وحتى مراعاته النفسية التي ربما لا يبوح بها.

بل لا بد أن نتفهم أن ربما لحظة صدق مع من نحب يمكن أن تعيد شخصا غائبا باتّصال أو هدية رمزية أو دعاء صادق. ويمكن لساعة واحدة في بيت ما أن تعني ما لا تعنيه أيام كاملة من التظاهر بالحضور.
العيد فرح مشترك لا منافسة فيه. فإن تحوّل إلى ساحة جذب وشد فقد معناه. فلنكن أكثر رحمة ببعضنا البعض. وأكثر تسامحا مع اختلاف اختياراتنا... وإن لم يكن هكذا ففي خلفية كل المشاهد تبقى حقيقة أن العيد لم يعد عيدا، بل أصبح امتحانا للمشاعر، ومعيار لقياس البر والانتماء والاخلاص، وكأن الحب والمودة تقاس بعدد الساعات التي نقضيها في هذا البيت أو ذاك.
هذا الصراع لا يحل بالإنكار أو التجاهل، بل بالاعتراف أولا بأنه موجود، وبأن لكل طرف مشاعره التي تستحق الفهم لا المحاكمة، ويبدأ الحل حين يكفّ كل طرف عن اعتبار العيد مناسبة لاختبار الولاء، ويتعامل معه على أنه وقت للتسامح والتراحم وتخفيف الأعباء لا زيادتها.
ليكن العيد لقاء محبة لا محاكمة عائلية، لتسمح فيه للقلوب أن تختار لا أن تسحب إلى حيث لا تهوى، فأعيادنا ستبقى ناقصة ما دامت تدار بعقلية التنافس لا المشاركة، وبمنطق الامتلاك لا المحبة، فالوصل الحقيقي لا يحدث بالجسد فحسب، بل بالنية الصادقة.

title

مقالات ذات صلة

search