
“غرباء في أوطانهم”.. لماذا يفقد البعض هويته وانتماءه؟
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه الثقافات وتضطرب فيه القيم، لم يعد السؤال عن الهوية ترفًا فلسفيًا، بل ضرورة وجودية. “من أنا؟” لم تعد مجرد عبارة تأملية، بل صرخة داخلية تتردّد في أذهان آلاف الشباب العرب ممن يشعرون بأنهم “غرباء في أوطانهم”.
فما الذي يدفع الإنسان لفقدان هويته أو الشعور بالانفصال عن مجتمعه؟ ولماذا يُولد في بعض البيئات ما يشبه القطيعة النفسية بين الفرد وجذوره؟
أولاً: الجرح النفسي في الطفولة
تبدأ أزمة الهوية من الداخل، حيث يعيش بعض الأفراد تجارب مؤلمة في طفولتهم: حرمان عاطفي، إهمال تربوي، أو تنمر مجتمعي. هذه الجراح تضعف تكوين “الذات”، وتترك الإنسان عرضة لأي هوية جاهزة قد يجد فيها القبول أو الأمان، ولو كانت مغايرة تمامًا لثقافته الأصلية.
ثانيًا: الاستلاب الثقافي والتشويه الإعلامي
لم يعد الاستعمار اليوم بحاجة لجيوش، بل لشاشات. حين يُقدم الآخر الغربي كنموذج متفوق في كل شيء، ويُصور المحلي على أنه متخلف أو غير عصري، تتسلل مشاعر الدونية إلى اللاوعي الجمعي. وهنا يبدأ التشوّه: انبهار مرضي بالآخر، يقابله نفور من اللغة الأم، والعادات، وحتى الملامح والهوية الدينية.
ثالثًا: التعليم الذي يُفرّغ ولا يُعبئ
كيف نتوقع انتماءً من طالبٍ لا يعرف تاريخه؟ أو لا يقرأ بلغة أمه؟ في مدارس كثيرة، يتم تهميش المكون المحلي لصالح مناهج معلبة أو مفروضة، لا ترتبط بالواقع ولا بالحياة، فتتكون فجوة بين الفرد وجذوره. يتحول التعليم إلى ماكينة لتفريغ الانتماء، لا لبنائه.
رابعًا: القهر السياسي والاجتماعي
لا يمكن الحديث عن فقدان الانتماء دون التطرق للسياسة. الأنظمة القمعية، وغياب العدالة الاجتماعية، وانسداد الأفق الاقتصادي، كلها عوامل تدفع المواطن إلى الانفصال النفسي عن وطنه. كيف ينتمي من يشعر بالتهميش أو القهر أو الإهانة؟ حين يتحول الوطن إلى عبء، لا حاضنة، تبدأ رحلة الاغتراب الحقيقي.
خامسًا: فقدان المعنى.. والانجراف خلف السراب
في عالم مادي سريع، يغيب المعنى، وتغيب الروح. بعض من يفقدون هويتهم لا يعانون فقط من قمع أو استلاب، بل من فراغ روحي هائل، لا تملؤه الشعارات ولا الموضات ولا العولمة. وحين تغيب البوصلة، يضيع الاتجاه.
إذًا، ما الحل؟
الحل ليس في العودة إلى الماضي كما هو، بل في إعادة تأصيل الهوية دون تحنيطها، وبناء انتماء حي لا شعاراتي، يبدأ من المدرسة وينعكس في الإعلام ويترسخ في السياسات العامة. هوية تؤمن بالكرامة، وتحتفي بالاختلاف، وتحترم الإنسان كقيمة عليا.
ففقدان الهوية ليس نهاية الرحلة، لكنه إنذار خطر، إن لم نستيقظ له، فقد نستفيق على مجتمعات بأجساد عربية.. وقلوب لا تنتمي لشيء..

الأكثر قراءة
-
بعد شهرين من زواجها.. عروس تنهي حياتها غرقًا بالفيوم وتترك رسالة وداع
-
بالأسماء.. مصرع وإصابة 14 شخصًا في انقلاب ميكروباص بسوهاج
-
بعد خفض الفائدة.. الدولار يسجل أدنى مستوى له منذ أكثر من عام
-
خلاف عائلي ينتهي برحيل شقيقين في الغربية
-
من قتـل الطبقة المتوسطة في مصر؟
-
لحظة غضب تحولت لجريمة.. عاطل ينهي حياة سائق داخل سيارته بأسيوط الجديدة
-
مصور "الفعل الفاضح": كان هيتسبب في كارثة على المحور
-
“المحلة منين يا سمنودي".. مكايدات كروية من قالب الغناء التراثي

مقالات ذات صلة
من قتـل الطبقة المتوسطة في مصر؟
05 أكتوبر 2025 12:03 م
من صفقة القرن إلى غزة الجديدة.. هل يعيد ترامب تدوير الوهم؟
04 أكتوبر 2025 12:00 ص
ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر: بين الحلم والواقع
29 سبتمبر 2025 09:21 ص
سر نجمة داوود.. من رمز مسروق إلى أداة للهيمنة
25 سبتمبر 2025 11:10 ص
أوروبا تكسر الصمت.. صفعة الاعتراف بفلسطين
24 سبتمبر 2025 11:39 ص
لماذا أصبحت العلاقات الإنسانية مجرّدة من الإنسانية؟
20 سبتمبر 2025 10:31 ص
حتى لا ينتهي "دور البطولة" بطلاق رمادي
18 سبتمبر 2025 04:34 م
بعد القمة العربية والاجتياح البري لغزة: كفى عجزًا واستسلامًا!
17 سبتمبر 2025 11:24 ص
أكثر الكلمات انتشاراً