الجمعة، 15 أغسطس 2025

05:24 ص

الاحتلال يغتال الحقيقة

في مشهد يختصر كل معاني القمع والاستبداد، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي جريمة جديدة بحق الصحافة الحرة، باغتيال الصحفي أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة، وعدد من زملائه المصورين والمراسلين، أثناء قيامهم بتغطية أحداث العدوان على قطاع غزة. الجريمة وقعت يوم الأحد، حين استهدفت غارة جوية إسرائيلية خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء، وهو ما أسفر عن استشهاد فريق إعلامي كامل تقريبًا.

هذه الحادثة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة ما دام الاحتلال مستمرا في سياسته الممنهجة لإسكات الكلمة الحرة، لكنها تمثل أعلى درجات الاستفزاز لضمير الإنسانية، لأن المستهدف هنا ليس شخصًا أو موقعًا عسكريًا، بل شهود عيان على الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين العزل.

أنس الشريف.. صوت الميدان الذي أزعج المحتل

منذ بداية العدوان الأخير، عُرف أنس الشريف بتغطيته الميدانية الجريئة من قلب مناطق القصف، حيث كان ينقل للعالم صور الأطفال تحت الركام، والنساء الهاربات من بيوتهن المدمرة، والمرضى المحاصرين في المستشفيات. لم يكن مجرد ناقل أخبار، بل كان شاهدًا على المجازر، يوثق بالصوت والصورة ما يحاول الاحتلال طمسه من ذاكرة التاريخ.

اختيار أنس الشريف كهدف لم يكن مصادفة. فالتاريخ الحديث يؤكد أن الاحتلال يستهدف الأصوات التي تكشف جرائمه، كما حدث مع الصحفية شيرين أبو عاقلة، والمصور يوسف أبو حسين، وغيرهم من عشرات الصحفيين الذين ارتقوا وهم يؤدون واجبهم.

جريمة حرب موثقة

استهداف الصحفيين أثناء النزاعات يُعد جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تضمن حماية الصحفيين المدنيين. لكن الاحتلال ضرب بكل هذه المواثيق عرض الحائط، مستفيدًا من صمت دولي مريب، بل وتواطؤ ضمني من قِبل بعض القوى الكبرى التي توفر له الغطاء السياسي والدبلوماسي.

الصور التي خرجت من موقع الجريمة أظهرت بوضوح الشارات الصحفية على ملابس الشهداء، وأدواتهم الإعلامية الممزقة بفعل القصف، ما ينفي أي ذريعة عن “الخطأ غير المقصود” الذي يحاول الاحتلال الترويج له كلما ارتكب جريمة مشابهة.


اغتيال الشاهد قبل الشهادة

في كل حرب، يكون الصحفي هو الشاهد الأهم. اغتياله يعني قتل الشهادة قبل أن تُكتب، وتدمير الدليل قبل أن يُعرض. الاحتلال يعرف تمامًا أن الكاميرا أقوى من الرصاصة حين تكشف الحقيقة، ولذلك يسعى بكل وسائله إلى تدميرها، سواء عبر القصف المباشر، أو عبر التضييق على العمل الصحفي، وقطع الاتصالات، وحجب الإنترنت عن غزة لفترات طويلة.

إفلات من العقاب وصمت دولي

منذ سنوات، والمجتمع الدولي يكتفي بإصدار بيانات تنديد خجولة، لا تتبعها إجراءات عملية. هذا الصمت هو ما يمنح الاحتلال الضوء الأخضر لمواصلة سياسته، ويجعل من دماء الصحفيين وقودًا لحرب إعلامية موازية للحرب العسكرية. فبدون الصحفيين، تصبح رواية المحتل هي الوحيدة المتاحة، وتغيب الحقيقة عن أرشيف الذاكرة العالمية.

المطلوب الآن

لم يعد كافيًا الحديث عن “إدانة” أو “قلق عميق”. المطلوب تحرك قانوني عاجل، يبدأ بفتح تحقيقات دولية مستقلة، وإحالة الملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية، مع فرض عقوبات واضحة على كل من يثبت تورطه في إصدار أوامر استهداف الصحفيين. كما يجب على المؤسسات الإعلامية الكبرى تشكيل جبهة ضغط موحدة لحماية الصحفيين في مناطق النزاع، وإيجاد آليات حقيقية تضمن محاسبة المعتدين .

رحل أنس الشريف وزملاؤه، لكنهم تركوا خلفهم إرثًا من الشجاعة والمهنية، وصورًا ستظل شاهدة على وحشية الاحتلال، مهما حاول أن يخفيها. دماؤهم ليست مجرد نقطة في سجل الخسائر، بل علامة فارقة في معركة الحقيقة، ورسالة للعالم أن الحرب على غزة ليست فقط حربًا على البشر والحجر، بل حرب على الذاكرة والوعي.

وإذا كان الاحتلال قد قتل الصحفيين، فإنه لن يقتل الحقيقة، فالأرض التي ارتوت بدمائهم ستظل تنبت حكاياتهم، والكاميرات التي تحطمت ستولد غيرها، لتواصل نقل ما لا يريدون أن يُرى… رحم الله شهداء صاحبة الجلالة..

search