الأربعاء، 03 سبتمبر 2025

02:31 ص

شيرين وحيد تكتب: في خان يونس معركه للبقاء
A A

تحت حصار الجوع.. حكاية أم من خان يونس

في خيمة متهالكه قديمة على أطراف خان يونس ، جلست "حنين” تحتضن طفلَيها وكأن ذراعيها وحدهما قادرتان على أن يحمياهما من البرد والجوع معًا. الليل هنا لا يشبه أي ليل آخر، فهو ممتلئ بالهمس والأنين، وضوء القمر ينكسر على قماش الخيمة الممزق ليكشف ملامح وجهٍ صارت ملامحه أكبر من عمره بسنوات طويلة.

لم تعد “حنين” تبحث عن رفاهية ولا حتى عن حياة طبيعية، صارت أقصى أمانيها أن تجد وجبة صغيرة تُسكت بها صراخ أطفالها. حين يسألها ابنها الصغير: “ماما، في أكل بكرة ؟” تبتلع غصتها وتجيب: “إن شاء الله يا حبيبي”. تعرف في أعماقها أن الغد لا يحمل وعدًا، بل اختبارًا جديدًا للصبر.

ذات ليلة، أمسكت بهاتفها المتهالك، وفتحت تطبيق “تيك توك”. لم تكن تعرف أنها ستتحدث إلى العالم، لكنها كانت تدرك أن الصمت لم يعد يحمي أحدًا. بكلمات مرتجفة قالت: “إحنا مش لاقيين ناكل… الجوع بيوجع أكتر من أي قصف”. آلاف المشاهدات انهالت، بعضها قدّم مواساة، وبعضها أرسل دعمًا، لكن ما بقي في قلبها هو أنها صارت صوتًا في عتمة عالم يحاول أن يغض الطرف.

الجوع هنا ليس نقصًا في الخبز فقط، بل نقصًا في الأمان والكرامة. كيف يمكن لإنسان أن يظل متماسكًا وهو يرى أطفاله يتقلبون من الألم على بطون خاوية؟ كيف يُختصر الحق في الحياة إلى لقمة تُبحث بين الأنقاض أو علبة تبرع تأتي من بعيد؟

“حنين” ليست وحدها. آلاف النساء في غزة يكررن الحكاية ذاتها بوجوه مختلفة. واحدة تكتب على ورقة “نحن جوعى” وتعلقها أمام خيمتها، وأخرى تبكي بصمت وهي توزع نصف رغيف على ثلاثة أطفال. المشهد واحد: جوع يفتك، وقلوب تقاوم.

حين نستمع لصوت "حنين"، ندرك أن القضية لم تعد أرقامًا في نشرات الأخبار ولا بيانات سياسية جوفاء. هي حكاية أم تقاتل بكل ما تبقى لها من إنسانية كي تُبقي أبناءها أحياء. وهنا يصبح السؤال الحقيقي: هل يكفي أن نتابع ونبكي، أم أن الإنسانية تقتضي أن نتحرك، كلٌ بما يستطيع؟ ولكن الحقيقة أن ما يعيشه أهل غزة أكبر من مجرد تعاطف أو بكاء من خلف الشاشات، إنها معركة حياة يومية ضد الجوع والخوف والخذلان. وحين تُترك أم تُصارع العدم لتطعم أبناءها، يصبح صمت العالم جريمة، ويصبح صوتها استغاثة تمزق الضمير الإنساني.

search