الأحد، 28 سبتمبر 2025

11:34 م

لماذا أصبحت العلاقات الإنسانية مجرّدة من الإنسانية؟

كنا زمان نسمع جملة: “الدنيا لسه بخير”، ونصدّقها. النهارده، صرنا نكررها على استحياء وكأننا نُكذّب أنفسنا لنطمئن. الحقيقة المؤلمة أن العلاقات الإنسانية في زمننا فقدت دفئها، وتحوّلت إلى أوراق معاملة لا أكثر.

عالم بلا روح

نعيش في زمن لم يعد فيه القلب مرجعًا، بل “الحاسبة”. الصداقة تُقاس بما تحققه من منفعة، والحب أصبح صفقة قصيرة الأجل، وحتى القرابة صارت مجرد صور على الفيسبوك وتهنئة محفوظة في المناسبات. الناس لم تعد ترى بعضها كأرواح، بل كأدوات: هذا يفتح بابًا، وهذا يسدّد فاتورة، وهذا يرفع صورة جميلة في وقت الحاجة.

قلوب إلكترونية

وسائل التواصل الاجتماعي اغتالت العلاقات ببطء. صارت الضحكة “إيموجي”، والدمعة “ستوري” مؤقتة، والاهتمام “لايك” بارد. لم نعد نجلس لنسمع بعضنا بصدق، بل نُسارع للرد بكلمة جاهزة حتى لا يلومنا الطرف الآخر. أصبحنا نعيش في عالم متخم بالاتصال، لكنه فقير جدًا في التواصل الحقيقي.

أنانية مقنّعة

أخطر ما يهدد إنسانية العلاقات هو تلك الأنانية المقنّعة: أن يُظهر لك الآخر أنه يحبك، بينما في داخله لا يراك إلا وسيلة لإشباع فراغ أو مصلحة. نمارس الخداع العاطفي ببراعة: “أحتاجك” صارت تعني “أحتاج ما تملكه”، و”أحبك” صارت مجرد كلمة تُقال لتأجيل الخيانة القادمة.

جفاف المشاعر

صرنا نرتدي أقنعة طوال الوقت. نخاف أن نعطي بصدق فنُخذل، ونخاف أن نقترب فنُستغل. فاخترنا الجفاف: لا نحب بعمق، لا نصادق بصدق، لا نثق بسهولة. لكننا نسينا أن هذا الجفاف يقتلنا من الداخل، يجعلنا مثل آلات تعمل وتتكلم، لكنها لا تشعر.

موت القيم

القيم التي كانت تحكم العلاقات سقطت واحدة تلو الأخرى. الوفاء؟ أصبح نكتة. التضحية؟ مجرد كلمة في الأغاني. الاحترام؟ صار رفاهية. حتى “النية الطيبة” لم تعد كافية في زمن يُقدّس المصلحة ويضحّي بالإنسانية.

هل ما زال هناك أمل؟

نعم، هناك قلة نادرة ما زالت صادقة، قلوب لم تتلوث بعد، أشخاص يعطون دون أن يسألوا: “ماذا سنأخذ بالمقابل؟”. لكنهم مثل الشموع في عاصفة، قليلون جدًا، وإذا لم نتمسك بهم ونحافظ عليهم، ستُطفئهم رياح الزيف والجفاف.


العلاقات الإنسانية اليوم ليست إنسانية، بل “مسرح كبير”: الكل يرتدي قناعًا، الكل يجيد التمثيل، والكل مستعد أن يصفّق لك طالما مصلحته معك. الحقيقة الموجعة أن الإنسانية لم تختفِ، لكنها أُقصيت عمدًا من المشهد، وأُبدلت بالأنانية والخداع البارد.

ولعل السؤال الذي يجب أن نطرحه بجرأة ليس: لماذا أصبحت العلاقات بلا إنسانية؟ بل: هل نحن ما زلنا نملك الشجاعة لنكون بشرًا بحق..

search