الإثنين، 22 سبتمبر 2025

04:36 ص

حين يؤجلنا القدر عن الوصول

كان الجو شديد البرودة، والسماء مثقلة بالغيوم، والهواء يلسع الوجوه برذاذ المطر الخفيف. أما في المحطة، فقد اختلطت أصوات النداءات بالميكروفون مع وقع خطوات الركاب المتسارعة، وصوت القطار وهو يطلق صافرة طويلة كأنه ينذر الجميع بأن الوقت لا ينتظر أحدًا. في إحدى المحطات كنت أجلس على مقعد خشبي أراقب الركاب وهم يركضون نحو القطار كأنهم يطاردون الزمن نفسه…

وفي احدي محطات القطار، جلستُ على مقعد خشبي قديم أراقب الركاب وهم يركضون نحو القطار كأنهم يطاردون الزمن نفسه. بجانبي جلست سيدة في منتصف العمر، تبتسم رغم أنفاسها المتقطعة من أثر الجري، وقالت لي وهي تحاول أن تستعيد أنفاسها: “فاتني القطار… لكن ربما لم يفتني القدر".

توقفت عند عبارتها طويلاً. كم مرة نظن أن تأخرنا لعنة، وأن فوات الموعد خسارة، بينما هو في الحقيقة حماية من مسار لم يكن مكتوبًا لنا؟ نحن كائنات تربط السعادة بالوصول في الموعد، وكأن القطار رمز النجاح، وكأن أي تأخير دليل فشل. لكن تلك السيدة بكلمة واحدة قلبت المعادلة، وجعلت من “الفقد” بداية لإدراك مختلف: أن الزمن ليس عدوًا، وأن ما يفوتنا قد يكون بابًا لما يلزمنا.

الحياة أشبه بمحطة كبرى، نصعد منها وننزل إليها، ونركض فيها خلف مواعيد لا تنتهي. بعض القطارات تأخذنا إلى حيث نحلم، وبعضها يبتلعنا في وجهات لم نردها يومًا. أليس أجمل أن نتأخر عن قطار لا يشبهنا، على أن نُساق إليه لأننا فقط كنا في الموعد؟

ويشير علم النفس إلى مفهوم يعرف بـ"إعادة التأطير"، أي النظر إلى الموقف نفسه من زاوية مختلفة. فما نراه خسارة قد يتحول، بمجرد أن نغيّر إطار التفكير، إلى حماية أو بداية جديدة. فالتأخير عن القطار ليس بالضرورة فشلاً، بل ربما كان نجاة أو دعوة للتوقف والتأمل. حين نرى في الخسارة فرصة، وفي التأخير حماية، نصبح أقل قسوة على أنفسنا، وأقدر على تقبّل تحولات الحياة. ربما القدر أرحم بنا مما نظن، لكنه يطلب منا الصبر واليقين حتى نفهم رسائله.

تذكرت كلماتها وأنا أغادر المحطة. لم أعد أرى في القطار الذي يفوتنا نهاية، بل بداية أخرى لصمتٍ يعلّمنا الإصغاء، ولحظة تساؤل قد تغيّر مسار يومٍ بأكمله.

فيا ترى، كم من الأشياء التي بكينا عليها كنا سنبكي أكثر لو حصلنا عليها؟ وكم من الأبواب التي أغلقت في وجوهنا، كانت في الحقيقة درعًا يحمينا من مسارات لم تُخلق لنا يوماً؟

search