الإثنين، 29 سبتمبر 2025

05:29 م

لم يكن لقاءً عابرًا

قد يظن البعض أن مقاعد الطائرة لا تجمع سوى مسافرين عابرين، يحمل كل منهم حقيبته الصغيرة ووجهته المختلفة. لكن أحيانًا، قد يكون المقعد المجاور لك محطة عابرة لقصة كاملة عن الفقد والوجع والخوف من الفراق.

كان الجو ساكنًا في سماء الليل، لا يُسمع سوى أزيز المحركات وارتجاف خفيف كلما اخترقت الطائرة غيمة محمّلة بالمطر. جلست هي قرب النافذة، تحتضن كوب قهوة بلا طعم، فيما جلس هو بجوارها على غير ميعاد. لم تكن النظرات الأولى سوى محاولة لكسر صمت ثقيل، لكن الكلمات خرجت بعد دقائق، وكأنها تبحث منذ زمن عمّن يستقبلها.

بدأ الحديث عن السفر والعمل، ثم تسلل إلى دوائر أعمق: أحلام مؤجلة، خيبات متراكمة، وخوف قديم. كان كل منهما يتحدث وكأن الآخر مرآة تعكس ما يخفيه دون تجميل. لم يكن لقاءً عابرًا، بل شرارة لحب نما سريعًا، تحوّل مقعد الطائرة إلى مقهى مشترك، ومكالمات طويلة في آخر الليل، ورسائل لا تنتهي ولقاءات قصيرة وأحاديث طويلة ممتدة حتى مطلع الفجر. كأن الزمن قرر أن يعوّض قِصر الأيام بكثافة المشاعر.

لكن، كما جاء هذا الحب على عجل، كان الفراق أيضًا محسومًا. الخوف الذي جمعهما هو نفسه الذي فرّق بينهما هو يخشى أن يذوب حبهما سريعًا ككل الأشياء الجميلة، وهي تخشى أن يتحول دفء اللحظة إلى بردٍ مفاجئ بلا إنذار.. وهكذا صار الحب مشتبكًا بالقلق، ينمو في العاطفة لكنه ينهار تحت ثقل المخاوف.

وعندما افترقا، لم يبقَ إلا يقينًا واحدًا: أن الحب لا ينهزم بالمسافات ولا الظروف بقدر ما ينهزم بالخوف الذي نحمله نحن. فالحب يحتاج إلى ثقة كي يعيش، مهما كانت الظروف لا إلى حصار من المخاوف والشكوك. وربما أجمل ما في اللقاءات العابرة أنها تترك لنا درسًا لا يُمحى: أن بعض القلوب تلتقي لتضيء لحظة في العمر، حتى وإن لم يُكتب لها الاستمرار.

فهل كانا يخافان الفقد حقًا؟ أم أن الخوف هو من سرق منهما فرصة البقاء؟ بعد الفراق ندرك أن الخسارة ليست في النهايات بل في أنفسنا حين نُسلم قلوبنا لسطوة الخوف ونتركه يكتب نهاياتنا. ولعل أصعب ما في الوداع أن نكتشف متأخرين أن الحب لا يموت، بل يظل عالقًا فينا، يذكّرنا دومًا بما كنا قادرين أن نعيشه لو أننا فقط وثقنا
فهل الفقد قدرٌ مكتوب لا مهرب منه، أم أننا نحن مَن نصنعه حين نترك خوفنا أقوى من شجاعتنا في الحب؟

هكذا انتهت القصة كما بدأت: بلا موعد.. وتركت خلفها سؤالًا لا يزول: “هل يرحل الحب حقًا، أم يظل عالقًا فينا بشكل آخر، ويغيّرنا للأبد؟”.

search