
فوز مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان بين الثقة والمسؤولية
شهدت الدبلوماسية المصرية مؤخراً تتويجاً جديداً لجهودها المتصاعدة، بانتخاب مصر لعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة من 2026 إلى 2028. هذا الفوز لا يُعد مجرد مقعد أممي يُضاف إلى رصيد الحضور الدولي، بل هو شهادة اعتراف بالدور القيادي الذي استعادت به القاهرة موقعها في الساحة الإقليمية والدولية. إنه تتويج لسياسة خارجية أكثر ثقة، وأكثر قدرة على بناء الشراكات والتأثير في ملفات تتقاطع فيها السياسة بالقيم والإنسان بالقرار.
من يتأمل المشهد المصري في الشهور الأخيرة يدرك أن ما تحقق لم يكن وليد صدفة أو تحركٍ عابر. ففوز الدكتور خالد العناني برئاسة منظمة اليونسكو، وهو إنجاز نادر في تاريخ الترشيحات العربية لتلك المنظمة، جاء دليلا ًعلى الثقة المتجددة في الكفاءة المصرية وقدرتها على إدارة المؤسسات الدولية ذات الطابع الثقافي والإنساني.
ثم جاء الدور المصري المحوري في عقد مؤتمر شرم الشيخ للسلام لإنهاء الحرب في غزة ليؤكد أن القاهرة لا تزال تمثل صوت العقل في منطقة تختنق بالصراعات، وأنها قادرة على الجمع بين الموقف الأخلاقي والدور العملي في آن واحد. مصر لم تكن وسيطاً تقليدياً، بل كانت بوصلة توجه المنطقة نحو خيار السلام، لا من باب الخطابة، بل من منطلق المسؤولية والتاريخ.
هذه التطورات المتلاحقة وضعت مصر في موقع مختلف داخل المعادلة الدولية؛ فعضوية مجلس حقوق الإنسان ليست محطة منفصلة، بل حلقة ضمن سلسلة متكاملة من الحضور المصري المتصاعد، وهي تعكس استعادة الدبلوماسية المصرية لفلسفتها القديمة الجديدة: الجمع بين القوة الناعمة والدور الواقعي. لهذا، فإن المقعد الأممي لا يمثل تتويجاً فحسب، بل بداية مرحلة جديدة تُختبر فيها مصر على مستوى الالتزام والقدرة والتأثير.
العضوية في مجلس حقوق الإنسان ليست وساماً للزينة، بل تكليف بمسؤولية مستمرة أمام المجتمع الدولي. فالمجلس هو المنصة الأهم التي تُصاغ فيها المعايير الحقوقية العالمية، ومن يجلس على مقاعده يصبح طرفاً في صياغة التوجهات والسياسات التي تمس كل دول العالم.
وهنا تأتي أهمية الدور المصري، الذي يمكن أن يعيد التوازن إلى النقاش الدولي حول حقوق الإنسان، عبر طرح رؤية "جنوبية" تُعيد الاعتبار لفكرة المساواة بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، بما يعبّر عن أولويات الدول النامية وحقها في التنمية جنباً إلى جنب مع الحرية.
لكن هذا الفوز، بقدر ما يحمل من رمزية إيجابية، يضع مصر تحت مجهر التقييم الدائم. فالعين الدولية ستتجه أكثر نحو القاهرة، تتابع أداءها الداخلي وتقيس مدى انسجام خطابها الحقوقي الدولي مع خطواتها الإصلاحية في الداخل.
وهنا تتجلى الفرصة الحقيقية؛ بأن تُحوِّل الدولة هذا الضوء المسلط إلى طاقة إيجابية تدفع نحو تحسين الواقع الحقوقي وتعزيز ثقة المواطن في مؤسسات بلده. فالمجتمع الدولي لا ينتظر من الدول أن تكون بلا أخطاء، بل أن تكون صادقة في محاولاتها للإصلاح وجادة في التزامها بالمعايير التي تشارك في صياغتها.
إن انخراط مصر في مجلس حقوق الإنسان يمنحها كذلك حصناً دبلوماسياً مهماً، فهي الآن في موقع من يؤثر لا من يُؤثر عليه. ومن هذا الموقع تستطيع القاهرة أن تقدم مبادرات نوعية في قضايا تتوافق مع تجربتها الواقعية، مثل حماية اللاجئين، ومكافحة خطاب الكراهية، وتعزيز حقوق المرأة، وإعلاء قيم التسامح والحوار. فإن التحرك المصري في هذه الملفات لا يجب أن يكون دفاعياً، بل استباقياً، يعكس ثقة الدولة بنفسها وبقدرتها على نقل تجربتها إلى الساحة الدولية.
وفي الوقت نفسه، تُلزم هذه العضوية مصر بمواصلة تطوير أطرها الوطنية لحقوق الإنسان، على نحو يجعل من الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وثيقة عمل مستمرة لا مجرد إعلان سياسي.
فالتحدي الحقيقي ليس في النصوص، بل في الممارسة. وهو ما يتطلب إشراكاً أوسع للمجتمع المدني، وتطوير آليات المراجعة الوطنية، والتعامل مع الآليات الأممية بروح التعاون لا الحذر.
إن عضوية مصر في مجلس حقوق الإنسان هي فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الداخل والخارج في الملف الحقوقي. فالقضية لم تعد تقتصر على الدفاع عن الصورة أمام المجتمع الدولي، بل أصبحت تتعلق ببناء سردية مصرية جديدة عن الإنسان وحقوقه، سردية تنطلق من واقع الدولة وتاريخها وثقافتها، لكنها تتفاعل مع المعايير الدولية دون خوف أو انغلاق. هي فرصة لأن تقول مصر للعالم؛ لدينا طريقنا الخاص للإصلاح، ولدينا من الإرادة ما يكفي لنخوضه بثقة وشفافية.
في النهاية، لا يمكن اختزال هذا الفوز في كونه نجاحاً دبلوماسياً فحسب. إنه تجديد للثقة الدولية في مصر، واعتراف بأنها لاعب جاد في منظومة الأمم المتحدة، لكنه في الوقت نفسه دعوة لمواصلة الإصلاح الداخلي بمسؤولية ووعي. فالرهان الحقيقي ليس على المقعد الذي فازت به مصر، بل على المسار الذي ستتخذه وهي تجلس عليه.
لقد كانت مصر بين أوائل الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، واليوم تعود إلى قلب المشهد الحقوقي الدولي لتكتب فصلاً جديداً من الحكاية،
لكن هذه المرة، من موقع الفاعل الذي يُقدّم الرؤية، لا المراقَب الذي يردّ على الأسئلة.

الأكثر قراءة
-
الطب الشرعي يحدد الجاني في واقعة العرسة والرضيعة النائمة بسوهاج
-
وزير التعليم يكشف مفاجأة تتعلق بتطبيق نظام البكالوريا: 88% واثقين فيه
-
انهار البيت أثناء النوم، أسرة من الأقصر تستغيث: “انقذونا قبل برد الشتاء”
-
زحام بمحطات الوقود في الأقصر قبل ساعات من تطبيق زيادة أسعار البنزين
-
زيادة أسعار البنزين والسولار رسميا خلال ساعات
-
بعد نشر "تليجراف مصر"، "تضامن الأقصر" تفحص حالة عم جمال بعد انهيار منزله
-
أسيوط تكرم "البطل ميخائيل" بعد إنقاذ أطفال من الغرق في منقباد
-
المغرب يكتب التاريخ.. مشروع دولي يصنع جيلًا عالميًا

مقالات ذات صلة
رجل من مصر على عرش اليونسكو
08 أكتوبر 2025 10:18 ص
الاعتراف بفلسطين.. بين ورق السياسة ودماء غزة
24 سبتمبر 2025 02:19 م
الأديب العالمي نجيب محفوظ.. ما زلنا نحاصره بعد الموت
31 أغسطس 2025 01:39 م
أوهام إسرائيل الكبرى
19 أغسطس 2025 10:45 ص
أكثر الكلمات انتشاراً