الخميس، 06 نوفمبر 2025

06:47 ص

زهران ممداني.. حين انتصرت نيويورك على ترامب

في السياسة الأمريكية، كل شيء ممكن، إلا أن يتخيل أحد أن عمدة نيويورك - المدينة التي لا تنام- سيكون شاباً مسلماً من أصول هندية عمره 34 سنة؛ لكن ها هو زهران ممداني يفعلها، ويهزم التوقعات كما يهزم الصمتُ الضجيج.
منذ إعلان فوزه، انقسمت أمريكا إلى فريقين؛ فريق يصفّق بدهشة، وفريق يصفّر بغضب. أما دونالد ترامب، فبالتأكيد لم يبت ليلته في هدوء، فالخبر لم يكن مجرد فوز في انتخابات محلية، بل صفعة سياسية على وجه اليمين الأمريكي الذي اعتاد أن يحتكر رواية "من هو الأمريكي الحقيقي".

ومع أن ممداني جاء من خلفية ثقافية ودينية قد يراها البعض "بعيدة عن المألوف الأمريكي"، فإن المفارقة الكبرى أن أغلب من صوّت له كان من يهود نيويورك أنفسهم. أولئك الذين يعرفون معنى الذاكرة والهوية والتاريخ، اختاروا هذه المرة أن يصوّتوا لمن يتجاوز كل ذلك نحو المستقبل.

كيف فعلها ممداني؟ ببساطة، تحدّث لغة الناس. لم يرفع شعاراً دينياً، ولم يتوار خلف هوية تُستغل سياسياً. قال بوضوح: مشكلتكم ليست ديني، مشكلتكم أن الإيجار غالي، والتعليم مكلف، والضرائب تلتهم ما تبقى من الدخل؛ حينها أدرك الناس أنه لا يمثل طائفة، بل يمثلهم هم.

ذكاء ممداني أنه لم يتجاهل معاداة السامية، لكنه أيضاً لم يستسلم لابتزازها السياسي، بل اعترف بالخطر، لكنه واجه الاستخدام المفرط له كسلاح في معارك السلطة، ومن هنا كسب احترام اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي، رغم أن كثيرين منهم من أصول يهودية. فاختاروه لأنه صادق وواقعي، لا لأنه مسلم أو مختلف.

نيويورك، التي كانت يوماً مملكة ترامب ومسرح نجاحاته العقارية، تحوّلت اليوم إلى منصة لهزيمته الرمزية، فالرجل الذي بنى مجده على خطاب الخوف من المهاجرين والمختلفين، وجد نفسه فجأة أمام نموذج جديد لأمريكا لا يشبهه. ممداني لم يهاجمه، ولم يذكره، لكنه ببساطة ألغاه من المشهد. فوزه كان الرفض الأنيق لكل ما يمثله ترامب؛ الغضب، الكراهية، والانقسام.

ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض بشعاراته القديمة، اكتشف أن الزمن تغير، اكتشف أن السلطة لا تعني بالضرورة الشعبية، وأن نيويورك - مدينته القديمة- لم تعد تصغي إلى صوته كما كانت. فالرجل الذي يملك المنصب خسر المزاج العام. المدن الكبرى لم تعد تشتري خطاب الخوف، ولا تصدّق شعارات الماضي. الناس لم تعد تبحث عمن يصرخ باسمها، بل عمن يفهم وجعها، وبينما يواصل ترامب الحديث عن الجدران والحدود والهجرة، كان ممداني يتحدث عن البيوت والإيجارات، عن الضرائب والفرص، عن المستقبل لا الخوف.

ومن هنا بدأ التصدع داخل الخريطة السياسية الأمريكية. فوز ممداني ليس مجرد نجاح محلي، بل إشارة إلى أن هناك جيلا ًجديداً من القادة يريد أن يستعيد السياسة من يد الخطاب الانقسامي. فأصبح واضحاً أن ولايات مثل نيويورك وكاليفورنيا تتحرك في اتجاه مختلف تماماً عن لغة ترامب، لغة تقوم على العقل لا على العصبية، وعلى الكفاءة لا على الهوية.

في النهاية، لم يفز زهران ممداني بمنصب العمدة فقط، بل فاز بمعركة المعنى، حيث أثبت أن أمريكا الحقيقية ليست التي تُروّج في تجمعات اليمين، بل تلك التي يصنعها الشباب في شوارعها ومدارسها وأحيائها المتنوعة. أمريكا التي تؤمن أن التعدد ليس خطراً بل قوة، وأن الزمن لا يعود إلى الوراء مهما صرخ الماضي.

وهكذا، من قلب نيويورك، بدأت صفحة جديدة في كتاب السياسة الأمريكية، عنوانها أن الخوف لم يعد هو القائد، وأن شاباً مسلماً استطاع أن يُعيد تعريف "الأمريكي الحقيقي” بلا ضجيج ولا شعارات. وربما كانت تلك اللحظة التي أدرك فيها ترامب — وإن لم يعترف — أن نيويورك التي صنعته يوماً، هي نفسها التي أنهت أسطورته الآن.

search