الإثنين، 08 ديسمبر 2025

08:49 م

الأسئلة العشرة التي تكشف ما جرى في الدوائر الـ19

يُقال دائمًا إن "الأرقام لا تكذب"؛ لكن الحقيقة أن الأرقام لا تتكلم أصلاً… نحن الذين نمنحها صوتاً حين نقرأها قراءة صحيحة. والسؤال الآن: ماذا قالت لنا أرقام الدوائر الـ19 التي أُعيدت فيها الانتخابات؟

هل تغيّر الناخبون فجأة؟ أم أن ما تغيّر هو المناخ السياسي نفسه، حين فُتحت النوافذ قليلاً فدخل الضوء؟
فالدوائر التي أعيد التصويت فيها لم تكن مجرد حدث انتخابي عابر، بل كانت لحظة اختبار سياسي واجتماعي، فتحت باباً واسعاً لمراجعة علاقة المواطن بصوته، والحزب بجمهوره، والدولة بمفهومها عن العملية الانتخابية نفسها.

فجأة، وبعد الجولة الأولى التي شابتها بعض التجاوزات المعلنة، جاءت توجيهات الرئيس بضرورة التصحيح، فانقلب المشهد رأساً على عقب. فلم يعد السؤال عمّن يفوز، بل كيف يفوز؟

ومنذ تلك اللحظة بدت الدولة وكأنها تعيد ترتيب القواعد، في إشارة إلى أن "صورة العملية" لا تقل أهمية عن "نتيجتها"، وأن الانضباط والنزاهة ليسا ترفاً بل ضرورة سياسية، حتى وإن لم تغيّر الإعادة خريطة البرلمان بالكامل، فإنها غيّرت – بالتأكيد– خريطة الثقة.

وبين الجولة الملغاة والجولة المعادة، وقف المصريون أمام صندوقين متشابهين في الشكل، مختلفين تماماً في الرسالة.

وفي المسافة بينهما وُلدت عشرة أسئلة، لا تهدف إلى التشكيك، بل إلى الفهم؛ ولا تبحث عن خصومة، بل عن قراءة دقيقة لما حدث… ولماذا حدث.

السؤال الأول: ماذا حدث حين أعيدت الانتخابات مرة أخرى؟

الذي حدث باختصار أن الناس حين أُتيح لهم أن يصوّتوا مرة أخرى، صوّتوا بشكل مختلف تماماً.
نتائج الجولة المعادة جاءت كأنها انتخابات تخص بلداً آخر، لا علاقة له بالجولة الملغاة: الأحزاب التي وُصفت طويلاً بـ "أحزاب الدولة" خسرت ما يقرب من نصف مليون صوت، وحزب مستقبل وطن وحده فقد ما يقرب من 400 ألف صوت. هذا ليس تراجعاً عادياً. هذا انهيار رقمــي، وصدع سياسي، ورسالة اجتماعية، كتبتها لجان الاقتراع لا صفحات الرأي.

السؤال الثاني: لماذا تغيّر مزاج الناخب بهذه السرعة؟

المزاج لم يتغيّر… بل المناخ الذي احتواه هو الذي تبدّل.
حين شعر الناخب أن هناك رسالة سياسية واضحة من أعلى مستوى بأن التجاوزات لن تمر، استعاد ثقته في أن صوته له وزن. والناخب المصري حين يشعر بأن اللعبة عادلة… يلعبها بجدية كاملة.

السؤال الثالث: هل كان التراجع خسارة انتخابية أم انكشافاً سياسياً؟

لا. كان سياسياً قبل أن يكون رقمياً.
خذ مثلًا:
– مرشح يحصل على أكثر من 22 ألف صوت في الجولة الملغاة، ثم يحصل على 1300 صوت فقط بعد إعادة هذه الانتخابات.
– آخر يفقد 70% من كتلة تصويته في ليلة واحدة.
– دائرة كاملة تتحول من "اكتساح" إلى "إعادة".
كيف نفهم هذا؟
نفهمه فقط إذا أدركنا أن الأصوات في الجولة الملغاة لم تكن كتلة صلبة من الناخبين، بل كتلة هواء تمت إعادة نفخها، وعندما تغير المناخ… تلاشت

السؤال الرابع: لماذا صعد المستقلون بينما تراجعت الأحزاب؟

لأن الناس اختارت القرب الاجتماعي على القوة التنظيمية.
المستقل هو الشخص الذي يعرفه الناخب، يراه في الشارع والبيوت والمناسبات، لا في المؤتمرات.
وفي غياب التوجيهات، يظهر ما هو أصدق؛ فالثقة تكتسب ولا تُصنع.

السؤال الخامس: ما الذي تخبرنا به هذه النتائج عن الحياة السياسية؟

تخبرنا أن الأحزاب التي تعتمد على "التنظيم"، لا على الناس، يمكن أن تنهار في يوم واحد، وأن قوة أي حزب ليست بعدد لافتاته أو عدد نوابه، بل بعدد المواطنين الذين يختارونه عندما يكون الاختيار حراً.
وتخبرنا أيضاً أن الحياة الحزبية المصرية بحاجة إلى إعادة بناء من الجذور، لأن تجربة الـ19 دائرة كشفت أن الأحزاب الموجودة تعيش على الدعم لا على الثقة. هذا ليس نقداً… بل دعوة لإعادة بناء الحياة الحزبية على قاعدة صلبة.

السؤال السادس: ماذا عن المستقلين؟

المستقلون كانوا المفاجأة.
لم يكن لديهم مال الأحزاب، ولا تنظيمهم، ولا تغطيتهم الإعلامية. لكن كان لديهم عنصر واحد لم يكن عند غيرهم: التصويت الحقيقي. فالناس اختارتهم لأنهم يشعرون أن صوتهم سيذهب لواحد منهم… لا لمؤسسة يعجزون عن فهمها.
وهذه قاعدة سياسية تستحق أن تُدرس: حين تغيب التوجيهات، ينتصر القرب الاجتماعي على النفوذ السياسي.

السؤال السابع: ماذا قالت الناس؟ وكيف قالته؟

الناس قالت جملة سياسية بليغة جداً: "نريد ممثلين… لا موظفين".
صوّتوا للمستقلين، ووجّهوا رسالة للأحزاب بأن ثقة الناس تُكتسب بالعمل والاحتكاك والاقتراب، لا باللافتات والشعارات.

السؤال الثامن: كيف تقرأ الدولة هذه النتائج؟

الدولة قرأت الرسالة مبكراً، ولذلك جاءت توجيهات التصحيح.
الإعادة كانت وفق منظور واضح؛ الحفاظ على صورة العملية، وترسيخ الانضباط، ومنع تراكم الأخطاء الصغيرة التي تتحول لاحقاً إلى مشكلات كبيرة.
ما حدث لا يضع الدولة أمام أزمة… بل أمام فرصة.

السؤال التاسع: هل كانت هذه اللحظة استثناء أم بداية جديدة؟

هنا السؤال.
هل تستمر هذه الروح في الجولات القادمة؟
هل يصبح الانضباط قاعدة لا استثناء؟
الناس جاهزون دائماً للتجاوب مع من يسمعهم.
والدولة التي صحّحت، تستطيع أن تُكمل عملية البناء بأكبر قدر من الثقة.

السؤال العاشر: ما الدرس الحقيقي الذي خرجت به الدوائر الـ 19؟

الدرس ليس في الأرقام فقط… بل في معناها.
الناس حين تُتاح لهم فرصة الاختيار الحر يُظهرون ما يريدون، وليس ما يُراد لهم أن يريدوه.
الدوائر الـ19 قالت بوضوح: حين يرتفع الغبار عن الصندوق… يعود الصوت إلى صاحبه.
ولا يربح الأقوى، بل الأكثر حضوراً في وجدان الناس.
ما حدث في الدوائر الـ19 ليس مجرد إعادة انتخابات؛ بل كان اختباراً: اختباراً لقدرة الناس على اختيار من يمثلهم، واختباراً لقدرة الدولة على تصحيح مسارها، واختباراً لحجم الأحزاب حين تُرفع عنها الرافعات.
والنتيجة جاءت صريحة: حين صوّت الناس وحدهم… اختاروا المستقلين.
وحين توقفت "الماكينات" للحظة… ظهر الحجم الحقيقي لكل شيء.
هذه ليست نهاية القصة، بل بدايتها.
ولعلّ السؤال الذي سيُطرح اليوم هو: هل تتكرر لحظة الحقيقة… أم كانت مجرد استثناء؟

search