
على مقعد الغياب
في كل جلسة علاج نفسية، هناك مقعد فارغ لا يتحدث، لكنه يحمل أكثر مما يقول الجميع، كانت الغرفة هادئة، لا يُسمع فيها سوى صوت عقارب الساعة وهي تُذكر الجميع أن الوقت يمضي، حتى لمن لم يعد له وقت، جلس المرضى في دائرة صغيرة، يتبادلون كلمات قصيرة وابتسامات متعبة، فيما ظل كرسي وحيد في الزاوية بلا أحد.
قالت الممرضة بصوت منخفض:
“كانت بتجي هنا دايمًا في ميعاد الجلسة، كلمتها كتير للأسف تليفونها مغلق”.
لم يسأل أحد أكثر من ذلك، لكن النظرات تبادلت الإجابات. كانوا يعرفون أن الغياب في المستشفى لا يعني تأخيرًا، بل يعني نهاية رحلة أو بداية وجع جديد أو بداية حياة جديدة.
الشاب الذي كان يجلس دائمًا بجوار المقعد الفارغ، نظر إليه طويلًا، كأنه يحاول أن يعيد إليه صاحبه بالنظر إليه فقط، تذكّر ضحكتها حين قالت في الجلسة الماضية:
“أنا مابخفش من الموت، أنا بخاف أسيب حد مستني، أصعب حاجة الانتظار”.
انغرست الجملة في صدره كشوكةٍ دقيقة، لا تُرى ولكن تُوجِع..
ربما لأنّ كل مَنْ في الغرفة كان يحمل في قلبه انتظارًا مؤجلًا، أو مقعدًا فارغًا لم يقدر يومًا على ملئه.
مرت الجلسة ببطء، والأحاديث كانت تدور حول الأمل، والعلاج، و”اللي جاي يمكن يكون أحسن”. لكن الحقيقة أن الكل كان ينظر إلى المقعد الفارغ كأنه مرآة.
الخوف من الغياب أكبر من الخوف من الألم نفسه.
قبل نهاية الجلسة، رفعت الممرضة المقعد وأخذته بعيدًا. لم تتكلم، فقط أزالته من الدائرة كأنه لم يكن موجودًا. ولكن الغياب لا يُرفع، يظل جالسًا معنا حتى بعد أن يرحل صاحبه.
ربما أصعب ما في الفقد ليس أن يرحل من نحب، بل أن يترك مكانًا لا يملأه أحد.
ذلك المقعد الفارغ يذكّرنا بأن الوجود لا يٌقاس بالحضور، وأن بعض الغائبين يملأ المساحة أكثر ممن بقوا.
في علم النفس، يُقال إن الغياب لا يُشفى منه، بل يُتعايش معه. نحن لا ننسى، بل نتعلم كيف نحمل الغياب برفق دون أن يثقلنا.
فالخسارة الحقيقية ليست فيمن غاب، بل فيمن تركناه يرحل دون أن نقول له كم كان وجوده يعني لنا، ربما كلنا في النهاية نحمل في داخلنا “مقعدًا فارغًا” لشخصٍ ما، نترك له مكانًا في ذاكرتنا لا يشغله أحد. ومع مرور الوقت، لا يشفى المكان، لكنه يهدأ، كجرحٍ لم يعد ينزف لكنه لا يزال يؤلم عندما نتحسسه.
هكذا نتعلّم أن الحياة ليست فيمن يبقى، بل فيما يتركه الراحلون فينا من صمتٍ ومعنى، يجعلنا أكثر إنسانية كلما فقدنا شيئًا.
فهل نحن من نخاف الغياب، أم نخاف أن نصبح نحن المقعد الفارغ في حياة أحدهم؟ وهل حقًا تنتهي اللقاءات بانتهاء اللحظة؟ أم أنها تبقى فينا، تتنفس كلما جلسنا بجوار مقعد فارغ يشبهها.

الأكثر قراءة
-
موعد صرف مرتبات أكتوبر 2025، هل تشمل الزيادة الجديدة؟
-
شاهد، بث مباشر مباراة الأهلي وإيجل نوار في دوري أبطال إفريقيا 2025
-
شاهد، بث مباشر مباراة الزمالك و ديكاداها في الكونفدرالية 2025
-
خبراء أمن يضعون "التوحش الرقمي" في قفص اتهام جريمة الإسماعيلية
-
الاستعلام عن اللجنة الانتخابية 2025 بالرقم القومي
-
البث المباشر لمباراة بيراميدز ونهضة بركان في نهائي كأس السوبر الأفريقي 2025
-
شاهد، بث مباشر مباراة بيراميدز ونهضة بركان بنهائي السوبر الأفريقي
-
على مقعد الغياب

مقالات ذات صلة
لم يكن لقاءً عابرًا
28 سبتمبر 2025 06:08 م
حين يؤجلنا القدر عن الوصول
21 سبتمبر 2025 06:57 م
حين يُثبت المجهولون أن الخير لا يموت
14 سبتمبر 2025 02:52 م
الانفصال الصامت.. وجع وموت بطيء
06 سبتمبر 2025 02:51 م
أكثر الكلمات انتشاراً