
توفيق عكاشة.. بائع الوهم وباثّ السم في العسل
في زمنٍ امتلأ فيه الإعلام بالصوت العالي واللافتات المزيفة، يطلّ علينا توفيق عكاشة كظاهرةٍ تستحق الوقوف عندها، لا إعجابًا، بل تحذيرًا. رجلٌ يحترف التمثيل على الشاشات أكثر مما يحترف الإعلام، ويُتقن فنّ “بثّ السمّ في العسل” كمن وُلد وفي فمه ميكروفون مزوّد بجهاز تضليل صوتي.
مِنْ وراء ستار!
منذ ظهوره الأول على شاشة الفراعين، روّج عكاشة لنفسه على أنه “ابن الناس الغلابة”، وناطق باسم البسطاء الذين لا يملكون منبرًا. يتحدث بلهجة الفلاحين، ويُقسم بأسماء القرى والمواويل، ليخلق لنفسه هالة الرجل الشعبي، فيصدّق البعض أنه “واحد منهم”.
لكن ما أن ترفع الغطاء قليلًا حتى ترى وراء الستار وجهًا آخر، وجه من صُنِع بعناية، ليكون الصوت الذي يُفرّغ الغضب الشعبي ويُعيد توجيهه.
صوتٌ يُقال له “أطلق النار هناك” فيُطلقها بلسانه على خصومٍ بعينهم، ثم يُقال له “اهدأ” فيتحوّل إلى حمامة سلام. تارةً هو المعارض الوطني، وتارةً هو جندي في صفّ السلطة. لكن الحقيقة الثابتة الوحيدة أنه لم يكن يومًا حرًّا في قوله أو فعله.
خطاب السمّ الملفوف بالعسل
خطاب توفيق عكاشة ليس صدفة. إنه خليطٌ محسوب من الإثارة والتهريج والتخويف. يبدأ بالضحكة، وينتهي بالتحريض.
يمدّ العسل أولًا في كلماتٍ محبّبة إلى العامة: “إحنا بلدنا دي جميلة”، “أنا بحب السيسي”، “اللي بيكره مصر يبقى خائن”. ثم يُمرّر السمّ في وسط الجملة: “لكن في خونة حوالينا”، “الإخوان هيرجعوا يحرقوا البلد”، “العرب باعونا”، “الغرب بيخطط لإسقاطنا”.
فيخرج المستمع محمّلًا بخوفٍ مضاعف، وشكٍّ في الجميع، وإيمانٍ أعمى بأنّ من يخالفه الرأي عدوّ.
هكذا يُصنع الوعي الزائف، وهكذا يُبنى جدار الجهل على هيئة وطنية زائفة.
أجندة من يدفع الثمن
توفيق عكاشة ليس عفويًا كما يبدو. كل جملة محسوبة، وكل صرخة مدروسة، وكل تهريج يُخفي ما وراءه. هو يزرع في عقول الناس أن “الزعيم لا يُسأل”، وأن “الوطن لا يُنتقد”، وأن “السكوت حكمة”.
بمعنى آخر، هو يُخدّر الوعي لا يوقظه، يُطبطب على الشعب لا ليواسيه، بل ليُسكته. وكل ذلك يجري تحت مظلة من “الاستقلال” المزعوم و”الجرأة” المصطنعة، بينما الخيوط الحقيقية تُحرّكه من خلف الكواليس كدمية تلفزيونية تتغذى على شهرةٍ رخيصة ونفوذٍ مزيّف.
التناقض هو الثابت الوحيد
تراه مرةً يتحدث عن “مصر فوق الجميع”، ثم يلتقي سفير إسرائيل ويبرّر اللقاء بأنه “خدمة للوطن”.
يهاجم السياسيين في يوم، ويُقبّل أيديهم في اليوم التالي. يتباكى على الفقراء ثم يصفهم بأنهم سبب خراب البلاد. يُقسم أن لا يخدم إلا الشعب، ثم يبيع الوهم للجمهور على الهواء بدراية من يعرف أنه يشتري عقولًا لا وعيًا.
لماذا هو خطر؟
لأن عكاشة ليس مجرد مذيع. هو نموذج لصناعةٍ كاملة تكرّر نفسها بأسماء مختلفة: إعلاميون يقدّمون أنفسهم كـ“صوت الحقيقة”، بينما هم أدوات في مشروع تغييب الوعي الجمعي.
الخطر الحقيقي ليس في صوته العالي، بل في الرسالة المبطّنة التي تُقال بين الضحك والسخرية، بين “النكتة” و”التحليل”.
فالكلمة التي تُقال مازحة اليوم، تُصبح غدًا قناعة جماهيرية تسند بها السلطة مشروعها، وتُطفئ بها آخر شعلة تفكير نقدي في هذا البلد.
حين يبتسم البائع ويُخفي الخنجر
توفيق عكاشة باختصار هو تجسيد لعبارة “الابتسامة التي تلدغ”. يبيع الوهم في قوالب ضاحكة، ويُهرّج ليمرّر السُم، ويتحدث باسم الوطن ليبرّر الصمت، ويخلط بين الوطنية والولاء الأعمى.
إنه ليس إعلاميًا بقدر ما هو مشروع دعائي متنقّل، يخدم كل من يدفع أكثر أو يضمن له البقاء في دائرة الضوء.
لكن الحقيقة التي يخشاها أمثاله هي أن الوعي لا يُشترى بالهتاف، ولا يُصنع بالتهريج. فالجمهور الذي أفاق يومًا سيعرف أن هذا “السمّ بالعسل” لم يكن إلا جرعة تخدير طويلة، وأن من باعها لهم لم يكن إلا بائع الوهم الكبير؛ “الإعلام الذي لا يوقظ العقول، يقتلها ببطء".

الأكثر قراءة
-
رائد عامر: 9100 أسير فلسطيني يُعاملون بوحشية داخل سجون إسرائيل (حوار)
-
نادية فكري لـ"تليجراف مصر": الصدفة قادتني لرفع الأثقال، وهذه رسالتي للشباب
-
تراجع مفاجئ في سعر الذهب اليوم، ما السبب؟
-
الأمن يفحص فيديو لشاب يهدد مواطنين في فيصل
-
سعر سبيكة الذهب 5 جرامات btc اليوم الإثنين 20 أكتوبر 2025
-
زيارة الرئيس السيسي إلى بروكسل، ترحيب شعبي واسع و5 ملفات هامة
-
رابط وخطوات استخراج نتيجة الشهادة الثانوية السودانية من الإنترنت
-
السجن 5 سنوات لطالب قتل زميله أمام لجنة امتحان بالفيوم

مقالات ذات صلة
عقدة أطلس.. حين يتحول الصبر إلى عبءٍ وجودي
18 أكتوبر 2025 03:32 ص
غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار: سلام هشّ على حافة الانفجار
10 أكتوبر 2025 09:17 ص
من قتـل الطبقة المتوسطة في مصر؟
05 أكتوبر 2025 12:03 م
من صفقة القرن إلى غزة الجديدة.. هل يعيد ترامب تدوير الوهم؟
04 أكتوبر 2025 12:00 ص
أكثر الكلمات انتشاراً