"نصف الدين" في خطر، "شبكة العروسة" تحرم المقبلين على الزواج من فرحة الذهب
ارتفاع أسعار الذهب في السنوات الأخيرة
لم تعد "شبكة العروس" مجرد طقس اجتماعي أو عادة متوارثة بين الأجيال، بل باتت تشكل عبئًا ثقيلًا يهدد أحلام آلاف الشباب والفتيات، فمع الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب، تحوّل بريق المعدن النفيس من رمز للفرح إلى مصدر قلق وتوتر للكثيرين ممن يستعدون لإكمال “نصف دينهم”.
سعر الجرام الواحد تجاوز 5 آلاف جنيه، وتبدلت العبارات الرومانسية حول "الشبكة" إلى مفاوضات عملية ومساومات قاسية بين الأسر، بينما لجأ كثير من الشباب إلى تقليص حجم الشبكة أو الاستغناء عنها تمامًا.
"بابا طلب 400 جرام دهب"!
تجلس دعاء (اسم استعاري) فتاة من المنيا في الثالثة والثلاثين من عمرها، أمام مرآتها كل صباح، تعدِّل حجابها وتخفي خلف ابتسامتها حزنًا صامتًا، وتقول بصوت مرتجف وهي تحكي عن تطلعها للفوز بعريس: “بابا طلب 400 جرام دهب، وقال اللي مش قادر يجيبهم ما يدخلش بيتنا.. ومن يومها محدش دخل".
مضت عدة سنوات وقل توافد العرسان قبل أن يختفوا تمامًا، بينما ظل شرط الذهب حاضرًا كجدار عالٍ يحاصر حياة دعاء التي لم تكن وحدها تعيش هذه المعاناه، بل صارت حكايتها مرآة لآلاف الفتيات اللاتي علقت أحلامهن بين جرامات من المعدن الأصفر وموروث اجتماعي لا يرحم.
وبينما يحتفظ البعض ببريق الذهب كرمز للفخر والمكانة، يجد كثير من الشباب أنفسهم محاصرين بين أعراف اجتماعية، وأحلام زواج مؤجلة لموعد غير معلوم.
لم تعد المغالاة في طلب الشبكة مجرد تقليد اجتماعي متوارث، بل يمكن القول إنها تحوّلت إلى أزمة تهدد أحلام الشاب الباحث عن الزواج، وتزيد من معدلات عزوف الكثير منهم عن دخول القفص الذهبي وإكمال “نصف دينه”، فيما تتجاوز أعمار آلاف الفتيات الثلاثين دون زواج وسط مخاوف "العنوسة".

الزواج من أجنبيات هروبًا من “الشبكة”
وفي حين يحاول البعض تجاوز هذه المشكلة الضاغطة اجتماعيًا بالزواج من أجنبيات أو بالبحث عن حلول خارج الإطار التقليدي، يظل المشهد العام أسير "ثقافة البريق"، حيث لا يزال الذهب يُعد مقياسًا للمكانة الاجتماعية، ودليلًا على القدرة المالية، رغم تغيّر الزمن.
بين طوابير المشترين أمام محال الصاغة ومبادرات "زواج بلا ذهب" التي لم تصمد طويلًا أمام الموروثات الشعبية، تتقاطع الحكايات بين شباب أنهكهم الغلاء، وأسر تتمسك بالمظاهر، وخبراء يحذرون من تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة ما لم يُعاد النظر في هذه الثقافة التي جعلت من "الذهب" حائط صد بين الرغبة والقدرة.
حكايات من الواقع عن الزواج وشبكة العروس
يقول أحمد (35 عامًا): “معاناتي مع الشبكة الذهبية كانت حين قررت الزواج قبل نحو سبع سنوات، وقتها كان والدي قد حصل للتو على مكافأة نهاية الخدمة من الجهة التي كان يعمل فيها، ومنحني إياها كاملةً لاستكمال تكلفة شراء الذهب، إذ اشترط والد خطيبتي في ذلك الوقت أن تكون الشبكة 150 جرامًا من الذهب”.
أما عمر ذلك الشاب الذي تخرج للتو في الجامعة، فسرد لنا قصته مع "شبكة العروسة" التي جعلته يعدل عن فكرة الزواج من الأساس: “كانت أول مرة اتقدم لخطبة بنت، ووالد العروس طلب 100 جرام ذهب”.
وتابع: "وقتها شعرت بالمبالغة في الطلب وأنا أعمل في أحد فنادق الغردقة، فرأيت أن الأمر نوع من التفاخر أمام الناس، وحاولت أن أتفاوض مع والد العروس لكنه رفض وقال: كل الناس ماشية كدا دلوقتي، ووقتها شعرت إنى أخطأت في الخطوة من الأساس".

الأرقام لا تكذب.. تراجع عقود الزواج في مصر
بيانات حكومية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تكشف تراجعًا ملحوظًا في عقود الزواج خلال السنوات الأخيرة، حيث تراجعت عام 2021 إلى 880 ألف عقد زواج مقابل ما يزيد على 927 ألف عقد في 2019.
بينما وصلت في عام 2022 إلى 500 ألف عقد زواج، وكانت الأرقام أكثر وضوحًا على تراجع عقود الزواج في عام 2023 التي وصلت فيها عقود الزواج إلى 320 ألف عقد (الأرقام تشير إلى تراجع 65% في عقود الزواج خلال الفترة من عام 2019 وحتي 2023).
ولم تُظهِر البيانات الحكومية تطوّر عقود الزواج خلال عام 2024 و2025 التي تجاوزت فيها أسعار الذهب محليًا وعالميًا إلى مستويات قياسية، غير أن خبراء وباحثين أكدوا تراجع عقود الزواج بشكل كبير، بسبب الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكاليف الزواج.
وأظهر استطلاع رأي أجرته شركة إجابات خلال عام 2024، أن 60% من الشباب يرفضون فكرة الزواج في الوقت الحالي لأسباب أهمها ضغوط الحياة وغلاء المعيشة.

12 مليون فتاة فوق 35 عامًا يبحثن عن العريس
أشار الاستطلاع إلى أن نحو 12 مليون فتاة تجاوزن سن 35 دون زواج مقابل 2.5 مليون شاب في الفئة العمرية نفسها، ما يكشف أن المغالاة في الذهب أحد أهم أسباب ارتفاع نسب "العنوسة" في مصر بحسب الخبير الاجتماعي جمال فرويز.
فرويز أكد أن المغالاة في الذهب ليست السبب الوحيد لظاهرة الامتناع عن الزواج، بل إن هناك أمورًا اجتماعية أخرى تتضافر معًا وتؤدي إلى الظاهرة، لكن المغالاة في الذهب تعد أهم أسباب عدول الشباب عن الزواج خصوصًا في الصعيد باعتبار “الشبكة” بندًا رئيسيًا لإتمام الزواج.
ثقافة المغالاة في الذهب تنتشر بشكل كبير في محافظات الصعيد، ومن حق والد العروس أن يطلب ما يراه مناسبًا. يبرر فرويز انتشار الظاهرة في الصعيد بقوله: “العريس عليه أن يبدي القبول أو الرفض، والأمر كله يعود إلى ثقافة متوارثة يصعب تجاوزها وهو عرف لدى الكثير من العائلات”.

جذور الشبكة.. من البردي إلى الذهب
يجمع المؤرخون على أن فكرة الشبكة خصوصًا خاتم الخطبة أو الزواج تعود إلى عصور الفراعنة، منذ أكثر من 5 آلاف عام توجد صور ورسومات في بعض المعابد الفرعونية تدل على ذلك.
ووفق أستاذ الحضارة المصرية القديمة بجامعة الإسكندرية، الدكتور حسن السعدي، فإن فكرة الخاتم جاءت بسبب اعتقاد القدماء المصريين أن الحلقة الدائرة رمز للحب الأبدي وللخلود وكان في زمن الفراعنة يُصنع من نبات البردي، وتحوّل بعد ذلك إلى المعادن كالنحاس أو الفضة أو الذهب في عهد الرومان.
أسعار الذهب تواجه الاستقرار الأسري
من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور وليد جاب الله، أن ارتفاع أسعار الذهب في السنوات الأخيرة أصبح عائقًا أمام إتمام الزواج لدى غالبية الشباب، مطالبًا بضرورة أن تكون عادة شراء الشبكة في مصر في حدود القدرة الشرائية للشباب وليس بناء على قيمة الذهب نفسها.
وأكد جاب الله ضرورة تغيير الموروثات الثقافية وتطويرها، بما يتماشي مع التطورات الاقتصادية والابتعاد عن المبالغة بهدف تيسير الزواج لمواجهة ظاهرة العنوسة التي قد يكون لها تأثيرات اجتماعية سلبية على المجتمع.

وفيما بات الزواج يشكل أزمة لدى الكثير من الشباب بسبب عائق "الشبكة" والمبالغة في قيمتها، بحسب ما أظهرت الأرقام، فهناك بوابة أخرى يلجأ إليها أغلب الشباب المصري حاليًا وهو الزواج من أجنبيات بعيدًا عن المبالغة في المهور والشبكة والالتزامات، أظهرت دراسة وحدة بحوث الاتجار بالبشر في وزارة الأسرة والسكان في عام 2011، أن هناك زيادة في معدلات الزواج من أجنبيات بنسبة 345%.
زواج الأجنبيات بديل مؤلم
وتقول الدراسة التي اطلعت عليها "تليجراف مصر"، إن الظاهرة تتركز في المناطق السياحية بصعيد مصر وبين فئات معينة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عامًا وأغلبهم يعمل سائق حنطور أو على مراكب شراعية، أو في مجال السياحة بأحد الفنادق.
الدراسة أوضحت أن أحد أبرز الدوافع تتمثل في الأوضاع الاقتصادية، فيما حذرت من خطورة ذلك على المجتمع، وأكدت نتائج الدراسة ذاتها أن عام 2010 شهد 17 ألف حالة زواج لمصريين جميعهم من محافظات الصعيد من أجنبيات.
وأظهرت الدراسة أيضًا أن أغلب الأجنبيات المتزوجات من مصريين هي الألمانية والإيطالية، وهو ما يشير إليه الخبير الاقتصادي محمد عبدالرحيم، بقوله إن الزواج بمثابة صفقة لتحقيق الحلم فالشباب يحلم بالانتقال من الصعيد إلى دول أجنبية للعمل، مؤكدًا أن بعض الشباب يطلق على مدينة شرم الشيخ والغردقة “بوابة السعد” لأنها فرصة للزواج بهدف تحسين مستوى المعيشة، خاصة أن الأجنبيات لا يبحثن إلا عن الأشياء المعنوية فقط خاصة كبيرات السن.
وتابع عبدالرحيم أن انتشار الظاهرة يرجع إلى ارتفاع تكاليف الزواج من الفتيات المصريات بسبب المغالاة في المهور والشبكة وتجهيزات الأثاث، مطالبًا بدور للمجتمع المدني في دعم وإطلاق المبادرات المجتمعية التي تستهدف تخفيف تكليف الزواج والتقليل من المبالغة في قيمة الشبكة "الموروث الثقافي الأصعب"، حسب وصفه.
مبادرات لم تصمد أمام العادات
قبل سنوات دشن أهالي عدد من قرى الصعيد والدلتا مبادرات مختلفة لتخفيف الأعباء المادية عن الشباب وتشجيعهم على الإقدام على خطوة الزواج، ومنها مبادرة "زواج بلا ذهب" التي دعت إلى الاكتفاء بـ"دبلة وخاتم رمزي" في الشبكة، خلافًا لمبادرة “العودة للأصول” في مركز البدرشين بالجيزة، و"يسِّر ولا تعسِّر"، و"زواج مبارك"، وجميعها مبادرات أطلقها الأهالي وتفاعل مع المواطنون على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي ولاقت قبولًا واسعًا، غير أنها اصطدمت بالموروثات الاجتماعية الراسخة وتفاخر العائلات بالمهور والشبكة.
يقول الشيخ صالح محمد: “عندنا في سوهاج مبادرة لاقت ترحيبًا واسعًا في بدايتها وسرعان ما تبدد ذلك مع التنفيذ، فلم يلتزم أحد بها، والناس رجعت لعاداتها من طلب مهور كبيرة وشبكة مبالغ فيها”.
وهنا يتدخل الخبير الاجتماعي جمال فرويز قائلًا: “المبادرات تفشل لأن طلبات العائلة تحدد وفقًا لمكانتها الاجتماعية وإمكانياتها المادية، فتجد كل المبادرات تفشل أمام العرف والقبلية التي تحدد طلبات العروس وكذلك طلبات العريس”.

الإسلام يدعو للتيسير لا المباهاة
المبالغة في الشبكة والمهر ظاهرة سلبية تتعارض مع مقاصد الشريعة، بحسب أشرف عبدالجواد أحد علماء الأزهر قائلًا: "الإسلام دعا إلى التيسير في إتمام إجراءات عقود النكاح سواء في الشبكة أو المهرد بعيدًا عن المبالغة".
وأضاف أن زيادة معدلات العنوسة وانتشار المفاسد من بين الظواهر الناتجة عن التشد في طلبات الزواج، كما يؤدي ذلك أيضًا إلى عزوف الكثير من الشباب عن الزواج، موضحًا أن الشرع أباح مهرًا يتناسب مع قدرة الشاب، مستشهدًا بحديث النبي الكريم: “تزوّج ولو بخاتم من حديد”.
ودعا عبدالجواد الأهل إلى تيسير سبل الزواج خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وانتشار العنوسة، وألا يتم إثقال كاهل الشباب بالمبالغة في تكاليف الزواج، مؤكدًا أن التيسير في المهور يُعين على الحلال.
اقرأ أيضًا:
جنون الذهب يعيد مبادرات تيسير الزواج وإلغاء الشبكة لصدارة المشهد
الأكثر قراءة
-
والد ضحايا واقعة الهرم: مراتي كانت أشرف من الشرف وكل اللي بيتقال عنها كذب (خاص)
-
"كنت فاكر إني مغطيها"، البلوجر محمد عبدالعاطي يكشف مفاجآت أمام جهات التحقيق (خاص)
-
حميدتي يهدد مصر، ماذا حدث في "الفاشر" وكيف سقطت في يد "الدعم السريع"؟
-
"تؤمريني يا حاجة"، محافظ الأقصر يستجيب لطلب سيدة بشأن نجلها من ذوي الهمم
-
اتهمته الأم عبر تليجراف مصر، كشف ملابسات خدش حياء توأم على يد عمهما بالبحيرة
-
الطريق إلى النموذج المغربي (2-2)
-
متخصص في الأحوال الشخصية: طلاق المسيحيين أصبح أكثر مرونة والزواج الثاني بتصريح
-
سعر الذهب يقترب من أدنى مستوى في أسبوعين، ما التوقعات؟
أخبار ذات صلة
ستاد الأهلي والصفقات الشتوية، 4 ملفات ساخنة تنتظر مجلس محمود الخطيب
28 أكتوبر 2025 11:50 م
حميدتي يهدد مصر، ماذا حدث في "الفاشر" وكيف سقطت في يد "الدعم السريع"؟
28 أكتوبر 2025 05:46 م
استغاثة على ضفاف الموت، أهالي الغنايمة يعانون الأمرين للوصول إلى المدرسة والمسجد
28 أكتوبر 2025 03:29 م
"من أديس أبابا لـ ياوندي"، 3 نهائيات مؤلمة أبكت المصريين في كأس أمم إفريقيا
28 أكتوبر 2025 09:37 ص
أكثر الكلمات انتشاراً