الثلاثاء، 11 نوفمبر 2025

09:07 ص

كلام من القلب.. ماتلعبش بعيد يا شاطر

كم مرة شاهدت ممثلا في عمل فني وقلتَ: كيف لهذا الشخص أن يكون ممثلا أو يقوم بالتمثيل أساسًا؟ أو رأيت مشهدا رتيبا مملًّا إخراجيًّا مثلًا، أو سمعت موسيقى بلا روح، إيقاعات متكررة مع صخبٍ وضجيجٍ.

ألم تسأل نفسك يومًا: ما هذا؟ لماذا كل هؤلاء يحتلون الأماكن التي يشغلونها الآن؟ بل و كيف أصبحوا نجومًا أيضًا؟ كأن هناك رابطاً قوياً يربطهم ببعض. نعم، إنهم أصحاب أنصاف وأرباعِ المواهب، أصبحوا مثل اللوبيِّ المنتشرِ، جسدٌ واحدٌ على طول المهنة، بل إنهم يعرفون بعضهم بالأعين، فهذا ممثل ضعيف محصور في دائرة واحدة أو صاحبُ عينين ميتتينِ، وهذا مخرج غير موهوب مقلدٌ غيرُ مبدعٍ يقوم بنسخ الأعمال الفنية، وذاك مؤلف ليس لديه حبكةٌ أو لسانٌ متعددٌ للشخصياتِ أو عمقٌ في الحوارِ أو جملٌ لا تُنسى، فكلُّ حوارِه سطحيٌّ يُعبّئُ الورقَ المطلوب منه لإتمام العمل ليس إلا، وهذه نجمة تاريخها في التسلق على أكتافِ الغيرِ معروفٌ للجميع، ويُقالُ هذا في جميع الجلسات إلا تلك التي تشاركهم هي فيها. 

وغيرهم الكثيرونَ من أنصافِ المواهبِ الموجودينَ في كافةِ المجالاتِ، فهم يعوضون نقص الموهبة بطرق أخرى تصلُ إلى حدِّ التذلّلِ ومسحِ الجوخِ كما يقولون، طرق لا يقوم بها الموهوب الذي دائمًا يعتقدُ أنَّ أفضلَ طريقٍ لعرضِ نفسِه هي موهبتُه التي تتكلّمُ عنه. 

شاهدت ذلك والتاريخ يشهد على ذلك في نماذجَ عديدةٍ، مثل الموسيقار العظيم موتزارت الذي لا يختلف عليه اثنانِ في موهبته الفذة، كان يوجدُ موسيقارٌ آخرُ في عصرِه يتحكّمُ به بحكمِ كونِه موسيقارًا للبلاطِ الإمبراطوريِّ آنذاك، وطبعًا كعادةِ ابنِ الكارِ، لا يعرفُ ويُقدّرُ حجمَ الموهبةِ إلا مَنْ حُرِمَ منها، وكان يتطلّعُ إلى أنْ تكونَ من نصيبِه، فكان هذا الموسيقارُ المدعوُّ ساليري يشعر بفارقِ موهبةِ موتزارت ومدى لمعانِه وتفوّقِه، وقرر أن يهمّشه، بل يتجاهله ويُثقلُ عليه، حتى مات موتزارت في ريعانِ شبابِه، قهرًا وهمًّا، بل وفقيرًا مُعدمًا، ودُفنَ في إحدى المقابرِ عندَ سورِ مدينتِه، وما زالَ مكانُ دفنِه مجهولًا إلى الآن، ولكن ظلت أعماله خالدة رغمًا عن أنفِ ساليري. 

الشيءُ نفسُه يتكرّرُ عبرَ العصورِ واختلافِ الأزمانِ، فاللوبيُّ نفسُه من أنصافِ المواهبِ يصلُ إلى القمّةِ عادةً تعويضًا عن نقصِ الموهبةِ، أثناء انشغال الموهوب بتقديم فنه كلما سنحت الفرصة، سواء أكانَ في دورٍ جيدٍ ليقتنصَه من أفواههم، أو حتى لو كانت تجربةً فنيةً لم يشاهدْها أحدٌ، لكنّه أخرجَ فيها طاقتَه الإبداعيةَ. 

إنهم ينظرونَ إلى بعضِهم، وبدونِ أيِّ لغةِ حوارٍ، ويُقرّرونَ ذلك بلغةِ الأعينِ، هؤلاء الضعفاء يقررون أن يتجاهلوا هذا الموهوب لكيلا يكشفَ فسادَ فنِّهم وذوقِهم المتدنّيَ أو أدائِهم المزريَ، يتجاهلونه فقط ويظلّوا على هذا التهميشِ حتى ينساهُ الجمهورُ، وكيف لا يتسنّى لهم ذلك وهم مَنْ يجلسونَ على طاولةِ المفاوضاتِ والاختياراتِ، كأن لسان حالهم يقول لهذا الموهوب: (العبْ بعيدًا يا شاطرُ). 

وهو فعلًا الشاطرُ الموهوبُ المليءُ بالفنِّ والأحاسيسِ التي تفضحُها عينُه الحيّةُ أو طاقتُه وحماسُه أثناءَ العملِ، فانظرْ إلى مشهدٍ واحدٍ أو أغنيةٍ أو لحنٍ واحدٍ يقومُ به هذا الموهوبُ وقارِنْه بتاريخٍ كاملٍ لهؤلاءِ الآخرينَ، وستعرفُ الفرقَ.

ولكن يظلُّ في نظري المسخُ الأكبرُ هو الجمهورَ الذي قامَ بتغذيةِ أنصافِ المواهبِ حتى أصبحوا الوحوشَ التي صاروا عليها. هو المسخُ الحقيقيُّ حين يشاهدُ هذا الهراءَ يكبرُ أمامَه حتى يصبحَ الصفةَ العامةَ الغالبةَ، ويظلُّ القليلُ منهم كجمهورٍ يقولونَ: يا ليتَهم يستطيعون التغييرَ، ويا ليتَهم يفعلونَ فعلًا قبل أنْ ينتهيَ المبدعونَ قهرًا وكمدًا في هذا الزمنِ الافتراضيِّ الذي يُقاسُ فيهِ النجمُ بعددِ المتابعينَ له بغضِّ النظرِ عن حجمِ موهبتِه، أو بكونِ المتابعينَ له أحباءَ له أو أعداءَ، فالمهمُّ والأهمُّ هو العددُ الكبيرُ المتابعُ له حتى أصبحنا في زمنِ"الفولورز". 

ولنا في الحديثِ بقيّةٌ.. À toute à l'heure 

حسام داغر

title

مقالات ذات صلة

search