السودان في مواجهة المصير المجهول
يمرّ السودان اليوم بواحدة من أكثر المراحل تعقيدًا وخطورة في تاريخه الحديث. فهو وطن متعدد الأعراق والثقافات والديانات، يمتد على مساحة شاسعة تلامس حدود سبع دول، ويملك من الموارد الطبيعية ما يجعله في مقدمة الدول الغنية في أفريقيا والعالم العربي: معادن، نفط، ذهب، أراضٍ زراعية تتجاوز 280 مليون فدان، وثروات مائية نادرة.
ولكن على الرغم من هذا الثراء، فإن التاريخ السياسي للسودان كان مثقلًا بالصراعات والانقسامات والأخطاء المركبة التي تراكمت حتى وصلت بالبلاد إلى الوضع الراهن: حرب أهلية متصاعدة، وميليشيات مسلحة، وانهيار اقتصادي، وتهديد وجودي للدولة نفسها.
جذور الأزمة: من الاستعمار إلى الانقسام
في تقديري، تبدأ قصة السودان مع الألم الحقيقي عام 1904؛ حينما قرر الاحتلال البريطاني سحب الجيش المصري من السودان، ثم فرض قانونًا يمنع اختلاط سكان الشمال والجنوب. كان ذلك القرار نقطة الانفصال الأولى بين مكوّنات المجتمع السوداني، وأسس لشرخ اجتماعي ظل يتسع مع الوقت.
فقد تعاملت الإدارة الاستعمارية مع السودان باعتباره "مناطق منفصلة" لا "دولة واحدة"، وهذا الإرث ترك وراءه ندوبًا سياسية واجتماعية عميقة.
ومع مطلع القرن العشرين، بدأ الصراع بين المركز والهامش، ثم جاءت مرحلة ما بعد الاستقلال لتكرّس هذا الانقسام بدلًا من تجاوزه. فقد أُعطي الجنوب الحق في تقرير المصير، ومع ظهور الحركات المتمردة، دخل السودان في صراع طويل انتهى بالانفصال الكامل عام 2010، لكنه لم يضع حدًا لمأساة السودان، بل فتح الباب أمام صراعات جديدة أشد تعقيدًا.
قرار النميري.. حينما أصبح الدين أداة سياسية
يظل قرار الرئيس جعفر النميري بتطبيق الشريعة الإسلامية والحدود أحد أخطر القرارات التي اتُخذت في تاريخ السودان الحديث. فقد جاء القرار في إطار سعي سياسي لكسب شعبية وإعادة تثبيت شرعية النظام، دون اعتبار للتعدد الديني والعرقي الذي يتكوّن منه السودان.
وبدلًا من أن يجمع القرار السودانيين، عمّق الفجوة بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي والوثني، وأصبحت الهوية الدينية سلاحًا سياسيًا، مما سرّع من مسار الانفصال وأشعل حروبًا أهلية دامية.
حكم البشير.. حينما دخل السودان في منظومة التنظيم الدولي للإخوان
مع انقلاب عمر البشير في 1989، دخل السودان مرحلة جديدة من المعاناة. فقد أصبح جزءًا من منظومة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومأوى لعناصر إرهابية وحركات متطرفة من مختلف الجنسيات. انعزل السودان دوليًا، وازدادت العقوبات، وانهار الاقتصاد، بينما تم استخدام موارد الدولة لتعزيز سلطة ضيقة ومغلقة.
لكن أخطر ما نتج عن حكم البشير هو تكوين ميليشيا الدعم السريع. فقد شكّلت الحكومة قوات شبه عسكرية في دارفور هدفها الأصلي مواجهة التمرد، لكنها تحولت لاحقًا إلى قوة مستقلة متضخمة، مستندة إلى عناصر من الجنجويد ومرتزقة من دول مجاورة، ثم سيطرت على جبل عامر ومناجم الذهب، ما منحها ثروة هائلة ونفوذًا سياسيًا وعسكريًا غير مسبوق.
كانت هذه لحظة التحول الكبرى التي زرعت بذور الحرب الحالية: حينما أصبحت قوة السلاح خارج يد الدولة، وأصبح هناك جيش موازٍ، يمتلك المال والنفوذ والعلاقات الإقليمية.
السودان اليوم.. مأساة إنسانية بحجم قارة
منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، يعيش السودان مأساة تتسع كل يوم. وفي مدينة الفاشر، شهد العالم واحدة من أكبر الجرائم في تاريخ أفريقيا الحديث: مجازر، اغتصاب جماعي، تهجير قسري، وتطهير عرقي موثّق، على مرأى ومسمع المجتمع الدولي.
لقد تحولت دارفور مرة أخرى إلى بؤرة كارثية، لكن الخطر اليوم أكبر بكثير مما كان عليه في مطلع الألفية.
٢٥ مليون سوداني على حافة المجاعة. ملايين النازحين يعبرون الحدود نحو تشاد وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى. انهيار كامل في الخدمات الأساسية. تهديد مباشر بتقسيم السودان إلى دويلات.
سيطرة ميليشيا حميدتي على أجزاء واسعة من غرب السودان، وتحويل الذهب السوداني إلى أداة تمويل إقليمية ودولية.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد حرب أهلية، بل تهديد وجودي لوحدة السودان، ونكبة عربية جديدة تتشكل على الأطراف الغربية للقارة الأفريقية.
البعد الدولي.. حينما تصبح الموارد سببًا للعقاب لا للتنمية
ثروات السودان لم تكن يومًا نعمة كاملة، بل تحولت إلى لعنة في كثير من الأحيان. فالذهب في دارفور والنفط في الجنوب والأراضي الزراعية في الوسط جعلت البلاد تحت أعين أطراف كثيرة: دول إقليمية، قوى دولية، وشركات أمنية خاصة.
ومع غياب الدولة، أصبح السودان ساحة مفتوحة للصراع بين أجندات تريد النفوذ لا الاستقرار.
إن الصراع في السودان ليس داخليًا فقط؛ بل هو صراع متعدد الطبقات، تتداخل فيه مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية لأطراف دولية تتصارع على الموارد والموقع الجيوسياسي.
من أين يأتي الحل؟
رغم كل التعقيد، فإن الحل ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إرادة سياسية دولية ومحلية، ومشروعًا وطنيًا جامعًا.
أولًا: قرار دولي ملزم
يجب على مجلس الأمن إصدار قرار واضح وصريح بمحاسبة قادة الدعم السريع على جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومنع تهريب الذهب والسلاح من مناطق الصراع، وفرض رقابة دولية على المنافذ الحدودية.
ثانيًا: خارطة طريق سياسية
لا يمكن للسودان أن ينهض دون كتابة دستور يعيد تعريف شكل الدولة، ويضمن حقوق الأقاليم المختلفة.
يجب وضع جدول زمني واضح لمرحلة انتقالية تُفضي إلى انتخابات شفافة.
ثالثًا: توحيد السلاح تحت سلطة الدولة
دمج كافة الميليشيات والقوات غير النظامية في الجيش السوداني هو شرط أساسي لعودة الدولة.
لا دولة مع جيشين.
ولا استقرار مع سلاح خارج القانون.
رابعًا: وقف التدخلات الخارجية
يجب الحد من التدخلات الإقليمية والدولية التي تغذي الصراع. السودان ليس ساحة مقاولات أمنية، ولا يجب أن يكون خندقًا في حرب الآخرين.
خامسًا: مشروع وطني لوحدة السودان
السودان بلد متعدد، وهذه ليست مشكلة؛ المشكلة حين يتحول التعدد إلى انقسام.
يجب إطلاق مشروع وطني شامل يعترف بالتنوع ويحوّله إلى قوة، وليس سببًا للصراع.
السودان أمام مفترق طرق
إن السودان اليوم يقف أمام مصير محفوف بالمخاطر. فهو بلد يملك كل مقومات القوة، لكنه أسير تاريخ من الأخطاء والانقسامات. ومع ذلك، لا يزال الأمل ممكنًا.
فالشعوب التي صمدت أمام الحروب والمجاعات والانقلابات تستحق أن تبني دولة جديدة على أنقاض الماضي.
السودان ليس شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا… السودان هو وطن واحد، تتلاقى فيه مياه النيل الأبيض والأزرق، وتتشكل فيه حضارة تمتد لآلاف السنين.
وما يمر به اليوم يجب ألا يكون نهاية القصة، بل بداية لمرحلة جديدة تعود فيها الدولة قوية، موحدة، عادلة، وقادرة على حماية أبناءها..
الأكثر قراءة
-
داخل كيس بلاستيك، سيدة تعثر على صغيرة متوفاة أمام باب شقتها ببولاق
-
"إخواته شاهدين"، التحقيقات تكشف تفاصيل جديدة في جريمة "طفل الإسماعيلية"
-
"كان عايز يفضحني"، ننشر اعترافات المتهم بجريمة طفل الإسماعيلية (خاص)
-
اعرف لجنتك، رابط الاستعلام عن لجنة انتخابات مجلس النواب 2025
-
رابط الاستعلام عن نتيجة قرعة حج الجمعيات 2026، وأسعار البرامج والخدمات
-
سعر صرف الدولار اليوم السبت 22 نوفمبر 2025
-
طوابير حاشدة وسط الدمار، أيفون 17 يثير الخوف والتساؤلات في قطاع غزة
-
ماذا عن مزاجنا العام؟!
مقالات ذات صلة
بين الفلسفة والسياسة: كيف أسس ابن رشد لعقلانية عربية مفقودة؟
12 نوفمبر 2025 12:49 م
نتنياهو.. ما لم يدركه "ملك إسرائيل"
26 أكتوبر 2025 10:10 ص
مصير الشرق الأوسط بين "ريفيرا ترامب" و"إسرائيل الكبرى"
24 سبتمبر 2025 03:03 م
"تحالف الخداع" بين الإخوان وإسرائيل
08 أغسطس 2025 03:41 م
أكثر الكلمات انتشاراً