ويأخذني الحنين إليك كلَّ ليلة، فأعرف أنه لا مفر منك إلا إليك
هناك لحظات في الحياة لا يكون فيها الحنين اختيارًا، بل حركة تلقائيّة تشبه عودة النهر إلى منبعه، عودة لا تحتاج قرارًا ولا تفسيرًا. هكذا يحدث الأمر معك كل ليلة، فحين يهدأ العالم، وحين تنطفئ الأصوات فوق رأسي، أجد قلبي يتقدّم نحوك كأنك الاتجاه الوحيد الذي يعرفه، لا أهرب منك، ولا أسعى إليك، لكن الحنين يسلّمني إليك في كل مرة، كأنه الطريق الذي لا يستطيع أن يتذكّر سواه.
لم يكن هذا الحنين ضعفًا، ولا عودةً إلى مكان لم ينضج بعد، بل هو اعتراف بأن وجودك في حياتي أصبح جزءًا من تكويني الداخلي، هناك حبّ لا يأتي ليكتمل، ولا ليغيّر شكل الأيام، بل يأتي ليكشف منطقة كانت نائمة في الروح، منطقة لا يوقظها سوى حضور واحد، نظرة واحدة، أو كلمة لا تُقال إلا حين يشعر القلب أنه آمن، وأنت دون أن تقصد أصبحت تلك النقطة التي تلتقي عندها كل مشاعري حتى التي لا أفهمها.
في علم النفس، يقولون إن القلب لا يتعلّق بالشخص فقط، بل بما يشعر بقربه.
وربما لهذا السبب كلما حاولت أن أخلق مسافة وجدت أن المسافة تُشبه هواءً قليلًا في مساحة ضيقة لا يكفي للتنفّس، فالحنين إليك ليس عودةً إلى ماضٍ، ولا توقًا لمستقبل، بل هو حضورك في داخلي كما لو أنك مقيمٌ في منطقة يصعب الوصول إليها، ولا يمكن إخلاؤها. حضور هادئ، لا يطالب بشيء، لكنه يملك القدرة على إعادة ترتيب يومي من دون أن يظهر.
ولأننا لا نقوى على الكلام دائمًا، اخترنا أو ربما اختار القدر لنا أن يكون بيننا طقس صغير لا يراه أحد أغنية تُترك، لا تحمل اسمًا، ولا رسالة مباشرة، لكنها تقول ما لا يقوله اللسان، أغنية تكمّل ما بدأه القلب، وتعترف بما لا يستطيع العقل ترتيبه. أغنية لا تُقرّبنا ولا تُبعدنا لكنها تحفظ هذا الخيط الرفيع الذي يربط الروح بروح أخرى دون أن يطالبها باللقاء.
وأنا أعلم أن الحب الذي لا يطلب شيئًا هو أثقل أنواع الحب وأصدقها. الحب الذي لا يحتاج يقينًا ليبقى، ولا إثباتًا ليصدّق نفسه، الحب الذي يكتفي بأن يكون موجودًا في العمق، دون ضوء ولا شهود.
ومع ذلك أسأل نفسي كل ليلة: إن كان الحنين يأخذني إليك في كل مرة فهل هذا لأنك قدري؟
أم لأن قلبي لم يجد حتى الآن مكانًا يليق به أكثر من قلبك؟
ولأن الحنين إليك لا يهدأ، ولأن حضورك داخلي صار يشبه نبضًا لا أعرف كيف أوقّفه، أجدني في نهاية كل يوم أعود إليك بطريقة ما أعود بفكرة خفيفة تمرّ في رأسي بنغمة تتسلّل إلى قلبي أو بصورة صغيرة تحمل تفاصيلك التي لا يلاحظها سواي. إنك لست غائبًا كي أفتقدك، ولست حاضرًا كي أطمئن، لكنك في تلك المنطقة الرمادية التي لا يعرفها إلا من عرف الحبّ حقًا، حبّ لا يبدأ حين نراه، ولا ينتهي حين نغيب، بل يظلّ يعمل في صمت، كأن الروح تخفيه حتى لا يراه أحد.
أحيانًا أتساءل هل يعرف القلب كيف يختار؟ أم أنه ينجذب إلى الشخص الذي يوقظ فيه إحساسًا لم يلمسه من قبل؟ لا أعلم! كل ما أعلمه أن وجودك في داخلي صار يشبه قنديلًا صغيرًا يشتعل كلما ظننتُ أنه انطفأ، ويبرّد روحي كلما اشتدّت عليها الأيام وإن قلتُ إنني أحبك، فسأكون قد اختصرت شيئًا لا يصلح للاختصار لأن حبك ليس شعورًا عابرًا، بل مساحة كاملة أتنفّس فيها، وأهدأ فيها، وأجدني كما لم أجدني مع أحد.
ولهذا… سأترك لك ما يشبه الوعد غير المكتوب: سأظل أبحث عنك في الأغاني، في السكون، في بداية الليل، وفي نهاية كل تعب سأظلّ أرى ملامحك في التفاصيل التي لا ينتبه إليها أحد، وأسمع صوتك بين السطور، وأراك في كل جمال يمرّ أمامي دون أن أستطيع تفسير السبب، وإن مرت ليلة ولم يأخذني الحنين إليك فربما حينها فقط سأعرف أنّ قلبي بدأ يهدأ، لا لأنه نسي، بل لأنه تعلّم أن يرتّب حبك بطريقة أقل وجعًا وأكثر نضجًا.
ومع كل هذا، يبقى السؤال الذي أتركه لك ولكل قارئ يخبّئ حبًا صامتًا لا يعرف مصيره: هل هناك شخصٌ يعود إليك رغم المسافة، ويطرق قلبك كل ليلة بلا صوت، فتدرك دون شك أن لا مفرّ منه إلا إليه؟!
الأكثر قراءة
-
على طريقة الطفل ياسين، بلاغات بالاعتداء على طالبات داخل مدرسة دولية بالسلام
-
بسبب الشبورة المائية، غلق طريق الإسكندرية القاهرة الصحراوي
-
ويأخذني الحنين إليك كلَّ ليلة، فأعرف أنه لا مفر منك إلا إليك
-
القضاء ينصف مواطنًا بالأقصر، استرداد أموال وفوائد وتعويض بعد تحويل إلكتروني بالخطأ
-
متى الجمعة البيضاء؟، تخفيضات تصل إلى 70%
-
مواعيد مباريات اليوم الخميس والقنوات الناقلة
-
ردًا على تدوينة "من صغرك متعود"، مصطفى بكري يوجه رسالة حادة لعلاء مبارك
-
يبدأ خلال ساعات، ماذا تعرف عن الصمت الانتخابي؟
مقالات ذات صلة
في القلب مكان لم يصل إليه أحد
10 نوفمبر 2025 05:08 م
على مقعد الغياب
18 أكتوبر 2025 03:04 م
لم يكن لقاءً عابرًا
28 سبتمبر 2025 06:08 م
حين يؤجلنا القدر عن الوصول
21 سبتمبر 2025 06:57 م
أكثر الكلمات انتشاراً