الأحد، 23 نوفمبر 2025

04:13 ص

لما الكبير يتدخل لإيقاف المهازل

علاقات الناس تتشابه مهما اختلفت ساحاتها. ففي البيت كما في المجال العام، هناك لحظات يصبح فيها التداخل بين الفوضى والنظام هشًا، وتحتاج الأمور إلى يد حكيمة توقف ما يحدث قبل أن يتحول إلى عبث كامل. ما جرى مؤخرًا من توجيه رئاسي بضرورة فحص بعض الدوائر الانتخابية التي ظهرت حولها شبهة عدم تعبير نتائجها عن رغبة المواطنين، ليس تفصيلاً عابرًا، بل رسالة واضحة تقول إن صوت الناس ليس مجالاً للعبث، وإن الديمقراطية لا تُدار بردود فعل متسرّعة، بل بفحص دقيق يعيد الأمور إلى نصابها من خلال الجهات المختصة المخوّلة بذلك.

وفي العلاقات الزوجية، قد نرى مشهدًا يشبه هذا المعنى وإن اختلفت التفاصيل. هناك لحظات لا يستطيع الزوجان فيها الاستمرار وحدهما وسط موجة من الخلافات التي تتراكم بصمت، ثم تنفجر دفعة واحدة. لحظات لا ينفع فيها صوت الانفعال ولا محاولات التبرير ولا الهروب من المواجهة. لحظات تحتاج إلى تدخل “الكبير” بمعناه الاجتماعي: كبير العائلة الذي يجيد تهدئة العاصفة، يفهم اللغة المختلطة بين الألم والكرامة، ويضع حدودًا لما يجب أن يُقال وما يجب أن يُكف عنه.

المشهدان متوازيان أكثر مما نتوقع. في أحدهما، توجيه من رئيس الدولة للجهات المختصة بفحص كل ما يستدعي الإعادة أو إلغاء النتيجة، من أجل صيانة إرادة المواطنين. وفي الآخر، تدخل كبير العائلة ليس لمحاباة طرف على حساب آخر، بل لحماية العلاقة ذاتها، ومكانتها، واحترامها، وإيقاف ما يمكن أن يتحول إلى مأساة إذا تُرك بلا ضبط.

هذا النوع من التدخل ليس من باب السيطرة، بل من باب المسؤولية. مسؤولية إدراك أن هناك خطوطًا حمراء لا يجوز تجاوزها، لا في التعبير عن إرادة الناس ولا في حفظ كرامة الأزواج. فكما أن الديمقراطية لا تستقيم إذا أصبحت الأصوات مجرد أرقام تُصنع في غرف مغلقة، كذلك الحياة الزوجية لا تستقيم إذا تحولت الخلافات إلى ساحة صراخ بلا رقيب، أو إذا بقي كل طرف متمسكًا بنظرته وحده دون وجود عين حكيمة تذكّرهم بأن العلاقة أكبر من لحظة غضب.

الكبير في الدولة لا يصادر دور المؤسسات، بل يعيد توجيهها لاستعادة ثقة الناس بها. والكبير في العائلة لا يلغي دور الزوجين، بل يفتح نافذة للعقل عندما تتعب القلوب من الجدال. الأول يسعى لأن تعود الانتخابات صورة صادقة لإرادة المواطنين، والثاني يسعى لأن تعود العلاقة مساحة آمنة للتواصل الإنساني.

في الحالة الأولى، التوجيه الرئاسي للفحص ليس إعلانًا للنتائج، بل إعلانًا لوجود مسؤولية تجاه ما بدا كأنه لا يمثل الصوت الحقيقي. وفي الحالة الثانية، تدخل كبير العائلة ليس إصدار أحكام، بل محاولة لحماية ما تبقى من الود قبل أن يتحول الخلاف إلى حطام. كلاهما يتدخل لأن الصمت ليس دائمًا حكمة، ولأن ترك الأمور تنفلت ليس شجاعة، بل تخلٍ عن دور لا يؤديه إلا من يملك مكانة ثقيلة في الوعي الجمعي.

تدخل الكبير في الدائرتين يكشف درسًا جوهريًا: ليس كل تدخل تسلطًا، وليس كل صمت حكمة. هناك تدخل يعيد المعنى إلى مكانه، ويعيد العلاقة إلى مسارها، ويمنع الفوضى من أن تصبح نمطًا يُعتاد. هناك تدخل يعمل على إنقاذ ما تبقى من الثقة، سواء كانت ثقة المواطن بصوته، أو ثقة الزوجين ببعضهما البعض.

الديمقراطية لا تستقيم إلا إذا كانت الإرادة الأصيلة للمواطنين تُصان. والعلاقة الزوجية لا تستقيم إلا إذا كانت الكرامة الأصيلة لكل طرف محفوظة. كلاهما قد يتعرض بصورة أو بأخرى لمحاولات تشويه: مرة بالتزوير، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتجريح المتبادل. وما بين التزوير والجرح، هناك خيط واحد يشترك فيه المشهدان: لحظة اتخاذ القرار بوقف المهزلة، وإعادة الأمور إلى حجمها الحقيقي.

الكبير ليس ذاك الذي يرفع صوته، بل الذي يرفع قيمة العدالة. ليس الذي يفرض، بل الذي يُعيد الاتزان. هو الشخص الذي يعرف أنّ ترك الخطأ يتمدد هو خطأ أكبر، وأن حماية الناس أو حماية العلاقة تحتاج إلى توقيت دقيق وقرار لا يتردد. في الدولة، القرار يصون صوت الناخب. في البيت، القرار يصون صوت القلب.

ومن أجمل ما في تدخل الكبير أنه يمنع الانهيارات غير الضرورية. يمنع سوء الظن من التحول إلى خصومة، ويمنع الخصومة من التحول إلى جرح لا يشفى، ويمنع الجرح من التحول إلى قطيعة. كما يمنع التلاعب بنتائج الانتخابات من أن يصبح عادة، ويمنع الإحباط من أن يتسرب إلى الناس، ويمنع فقدان الثقة من أن يصبح إرثًا ثقيلًا.

البيوت مثل الدول، تحتاج دائمًا إلى صوت عاقل يوقف الانحرافات قبل أن تتراكم. وحين يظهر هذا الصوت، لا يشبه قاضيًا يصدر حكمه، بل يشبه طبيبًا يوقف نزيفًا قبل أن يصبح خطرًا. كبير العائلة يوقف المهازل ليس لأنه أعلى شأنًا، بل لأنه الأقدر على النظر من مسافة، الأقدر على فهم ما وراء الكلمات، والأقدر على تذكير الجميع بأن ما يجمعهم أكبر من الخلاف.

وفي المشهد العام، توجيه الرئيس بفحص الدوائر المشكوك في نتائجها خطوة تقول للمواطنين: صوتكم ليس سلعة، ورغبتكم ليست تفصيلًا ثانويًا. إنها رسالة تطمئن الناس أن العدالة ما زالت ممكنة، وأن التصحيح ليس عيبًا، بل واجبًا.

المعنى واحد في النهاية: وجود كبير يملك الشجاعة للتدخل لحماية الحقيقة، سواء كانت حقيقة رغبة الناس أو حقيقة العلاقة بين اثنين التقيا ليكونا سندًا لا خصمين.

search