المسن وفتاة المترو.. بين المبالغة في رد الفعل والوصاية!
شهدنا موجة واسعة وحادة من الجدل والانقسام المجتمعي حول الفيديو المتداول الذي يظهر فيه مسن يوبخ فتاة بسبب طريقة جلوسها في المترو.
المشهد ليس استثنائياً، بل سبقه مشاهد ومواقف عدة، منها حالة السيدة التي عنّفت فتاتين سابقاً في المترو بسبب ملابسهما التي لم تعتبرها لائقة وفق قناعتها الشخصية.
الرجل هبّ من مقعده، ملوحاً بعصاه، ومحاولاً استقطاب بقية ركاب عربة المترو لينحازوا إلى موقفه، في مشهد كشف عن توتر عميق في علاقتنا بمفاهيم الأخلاق، والحرية الشخصية، والوصاية الاجتماعية.
والسؤال الأهم هنا، هل كان رد فعل الرجل مبالغاً فيه، ولماذا نميل كمجتمع إلى التصرف بهذا القدر من الحساسية، والتدخل في شؤون الآخرين، والحكم على سلوكياتهم.
أولاً، هل كان هناك مبالغة في رد فعل الرجل؟
أرى من حيث المبدأ أن التعبير عن الانزعاج سلوك إنساني طبيعي، لكن تظل طريقة التعبير هي الفيصل، رد فعل الرجل لم يقتصر على إبداء رأي أو انسحاب هادئ، بل اتخذ شكل توبيخ علني يتضمن إدانة أخلاقية مباشرة، ومن ثم فإن التحول من الشعور الشخصي إلى الهجوم العلني يمكن اعتباره مبالغة، لأنه افترض سلطة أخلاقية غير متفق عليها.
كما أن الرجل حوّل تصرفاً شخصياً غير مؤذ إلى “قضية أخلاقية عامة”.
بشكل عام، المبالغة هنا ليست الشعور، بل تضخيم الفعل وتحميله معنى أخلاقياً قسرياً، وتجريم سلوك يراه كثيرون عادياً.
ثانياُ، لماذا نحن مجتمع شديد الحساسية؟
الحساسية الزائدة تجاه تصرفات الآخرين غالباً ما تنبع من، عدم اليقين الداخلي، وشعور الفرد بأن قيمه الشخصية مهددة، فيتحول الدفاع عنها إلى هجوم، والرجل رأى أن سلوك الفتاة ليس مهذباً، وليس من عاداته أو تقاليده أن تجلس إحداهن بهذه الطريقة أمام رجل غريب، ولا سيما إن كان كبير السن، وبدلاً من أن يكتفي بالتعبير عن الامتعاض داخلياً، أو حتى تنبيهها بطريقة أكثر هدوءاً، هاجمها بضراوة، بل حاول تأليب الجالسين ضدها!
مجتمعنا يخلط كذلك بين أمرين يجب الفصل بينهما، وهما الذوق الشخصي، والأخلاق العامة، ما لا يعجبني يصبح "خطأ"، وما أرفضه يصبح انحرافاً! وبناء على ذلك يستبيح البعض تلوين الآخرين، وتصنيفهم بناء على مظهرهم وأسلوبهم في الحديث أو حتى نمط عام.
وأذكر بهذه المناسبة أن صديقاً لي كان يجلس مع زوجته في أحد المطاعم الراقية، وتجلس في الطاولة المجاورة سيدة رفقة أطفالها، ومن بينهم طفل يبكي بشدة ويثير ضجة في المكان رغم أنه يبدو أكبر في السن من أن يتصرف بهذه الطريقة.
صديقي أبدى تبرمه وضيقه دون أن يتحدث، لكن عكست نظراته ذلك، فشعرت السيدة بالحرج، وحملت طفلها وغادرت قاعة المطعم دقائق عدة، ثم عادت بالطفل مرة أخرى وكان أكثر هدوءًا، ومن ثم لاحظ صديقي أن الطفل مصاب بتأخر ذهني، وليس طبيعيا، فشعر بندم لازمه فترة طويلة، وتعلم من هذا الموقف أن لا يحكم على الآخرين من مظهرهم!
خلاصة القول من موقف الرجل المسن مع فتاة المترو وغيرها، أن لدينا مشكلة في ردود أفعالنا، وبالمناسبة نحن لا نغضب من الفعل بقدر ما نغضب مما يرمز إليه في مخيلتنا، فالرجل ليس متضرراً من أن تضع فتاة قدماً على أخرى، لأنها لم ترفعها في وجهه، لكنّ فعلها يعبر في مخيلته وقناعته عن صفاقة وقلة أدب!
الوصاية الاجتماعية على الآخرين ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج ثقافة تربط الأخلاق بالمراقبة لا بالاختيار، وهذه كارثة كبرى، فنحن لا نحصن بناتنا ضد الخطأ لكن نراقبهن بقدر كبير من الخوف والفزع، حتى يضقن ذرعاً ويتمردن على هذه الرقابة.
كما أننا لا زلنا أسرى عادات تعطي الكبير حق التقويم والتوجيه والتهذيب دون طلب، وهذه مأساة بكل المقاييس، رغم خضوعي التام لكل كبار السن وحرصي على خفض جناح الذل لهم، إلا أن الجيل الحالي من الشباب نشأ في بيئة مختلفة، عززت لديه الشعور بالحرية والاستقلالية وعدم قبول النصح أو التوجيه بطريقة أبوية سلطوية!
القضية ليست رجلاً غاضباً أو فتاة جالسة بطريقة غير لائقة، بل مجتمع لم يتفق على حدود الحرية والاحترام المتبادل. ورغم علمي من خلال الزملاء في "تليجراف مصر" أن المشادة لها مقدمات لم تظهر في الفيديو وربما مدت الفتاة ساقيها أكثر من اللازم أثناء دخول الرجل، إلا أن قناعتي هي أن الأخلاق لا تفرض بالصوت العالي، ولا تحفظ بالإهانة، بل تبنى بالوعي والقدرة على التعايش مع الاختلاف.
ربما حان الوقت أن نسأل أنفسنا، هل ندافع عن القيم، أم عن خوفنا من فقدان السيطرة؟!
الأكثر قراءة
-
سبب وفاة الفنانة نيفين مندور داخل شقتها بالإسكندرية
-
وفاة نيفين مندور بطلة فيلم "اللي بالي بالك"
-
بعد وفاتها في حريق.. النيابة تعاين شقة الفنانة نيفين مندور بالإسكندرية
-
المسن وفتاة المترو.. بين المبالغة في رد الفعل والوصاية!
-
سر القرار 53، "الإيجار القديم" يزيح الستار عن لغز عزوف المستأجرين عن السكن البديل
-
"مستأنف الدقي" تؤيد حبس محمد رمضان عامين وغرامة 10 آلاف جنيه
-
مصرع سائح هولندي إثر مشاجرة في كافيه بالغردقة
-
"اسمها أمي"، لفتة رائعة من ممرض مع عاملات المستشفى تخطف قلوب المتابعين
مقالات ذات صلة
منظومة بلا محاسبة.. لماذا لم يعتذروا لنا؟
13 ديسمبر 2025 12:51 م
قضية "سيدز".. التجارة بالألم وعدالة "الحقيقة"
08 ديسمبر 2025 05:59 م
برلمان على حافة الفراغ!
30 نوفمبر 2025 07:10 م
رمضان المسكين.. هل يجب أن نتعاطف مع متهم لأنه نجم؟!
28 نوفمبر 2025 03:49 م
أكثر الكلمات انتشاراً