الإثنين، 29 ديسمبر 2025

01:56 ص

استباحة المشاهير .. وما نملكه من ستر وكرامة!

لا نمد أيدينا للمساعدة الآن، حين نرى من يستحق ذلك، في الشارع أو المواصلات العامة أو في مكان ما، بل نرفع هواتفنا للتصوير!

سقوط إنسان أمامنا لم يعد حادثاً بل مادة للتصوير والنشر والسعي وراء "اللقطة"، وانهيار شخص ليس لحظة إنسانية بل فرصة "ترند!

ربما كانت واقعة تصوير الفنانة ريهام عبدالغفور في مكان عام، آخر الوقائع التي تجسد حالة التشوه الأخلاقي التي لطخت مجتمعاتنا حالياً، لكن الإشكالية من وجهة نظري لم تعد في مجرد التصوير، وإنما في الفكرة التي تحكمها وتحكمنا، وهي أن "المشهور مستباح"!

لقد هالني تعليقات بالغة الانحطاط، تعكس وضاعة أكثر من العدسة التي انتهكت خصوصية الفنانة، والحقيقة أن ما حدث معها يحدث يومياً مع غيرها، فقط دون أسماء معروفة!

قس على حالة ريهام عبدالغفور، أطفالاً يتم تصويرهم داخل مدارسهم، وهم يبكون أو يُعاقَبون، وتُرفع الفيديوهات باعتبارها تأديباً أو فضحاً.

نساء يتعرضن للتحرش أو الإهانة في الشارع، بينما الكاميرا تعمل، والتدخل الإنساني مؤجل إلى ما بعد التصوير!

مرضى في أقسام الطوارئ تُلتقط لهم الصور في لحظات ضعف قصوى، ويُبرر ذلك بأنه تجسيد للواقع، وبهذه المناسبة ألغيت متابعتي لشخص قام بتصوير زوجته بعد خروجها من العناية الفائقة إثر جراحة أجرتها، دون أن يبال بحرمتها إنسانياً وأخلاقياً، ولا زلت حتى الآن لا أجد تفسيراً لهذا التدني!

ومثل الفنانة الشهيرة، أسر مكلومة في جنازات أو حوادث، تتحول دموعها إلى مادة للتداول، بلا احترام للحظة أو للوجع.

وفي كل مرة، يتكرر نفس المشهد،"عدسة مرفوعة.. إنسان مكشوف.. وجمهور متعطش للحكم والجلد والتعليق، مثل الذين علقوا على ملابس الفنانة، ولاموها في واقعة كانت هي الضحية بكل 

وبالنظر إلى وقائع أخرى مثل حادث المسن مع سيدة المترو، يقول الطرف الذي يصور دائماً أن الهدف هو توثيق ما يحدث حماية لحقوقه، لكن من يوثق يفترض أن لا ينشر!

الحقيقة أننا لا نوثّق، نحن نتلصص، فالتوثيق له هدف عام واضح، أما ما نراه اليوم فهو اقتحام فجّ لمساحات خاصة، بحجة الفضول أو الشهرة أو السبق!

الخطير أن المجتمع لم يعد يرى في هذا سلوكًا شاذًا، بل أمرًا عاديًا، فالكاميرا أصبحت رد الفعل الأول، والمساعدة احتمالًا مؤجلًا، والضمير أمراً نسبياً اختياريًا.

الاعتراف واجب الآن بأن السوشيال ميديا لم تعد تسرق الخصوصية وحدها، لكنها أعادت تعريفها، فالخاص الخاص أصبح عامًا، والإنساني أصبح استهلاكيًا، والوجع أصبح قابلًا للمشاركة.

صدقوني، الأخطر من التصوير الآن هو "التطبيع" أي تقبل ذلك والتعايش معه باعتباره أمراً طبيعياً..

أن نشاهد، ثم نشارك، ثم نضحك، ثم ننسى، وكأن الإنسان داخل الفيديو مجرد تفصيلة جانبية لا تستحق التوقف.

نحن أصبحنا أشبه بقطيع من الهواتف التي تستعبد بشراً، نقنع أنفسنا ببراءة "إننا نصور فقط!

لكن الحقيقة أكثر قسوة وبساطة، فالتصوير قرار، والنشر مشاركة، والتفاعل تشجيع، وكلما تفاعلنا أكثر رسخنا هذه السلوك البغيض!

واقعة ريهام عبدالغفور لم تكن أزمة فنانة، بل مرآة مجتمع .. مرآة تعكس أن أي شخص - مشهور أو مجهول- قد يفقد حقه في الخصوصية في أي لحظة، لأن أحدهم قرر أن يخرج هاتفه!

والسؤال الذي أتمنى أن يوجهه كل منا إلى نفسه ، ماذا لو كانت اللقطة لك، هل كنت ستراها مجرد محتوى يستحق النشر والمشاركة والتفاعل؟!

وماذا لو تعرضت انت للانتهاك، هل كنت ستسكت على ذلك؟!

في الزمن الذي نعيشه، الخصوصية أصبحت مجرد ذكرى، وما نملكه من ستر وكرامة مؤقت إلى أن يوجه أحدهم هاتفه إلينا!

اقرأ أيضا:

المستشار محمد نجيب يكتب: رسالة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي

المستشار محمد نجيب يكتب: تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.. يا للوقاحة!

search