مرايا الدخان؛ التي تزيغ الأبصار والبصائر! | خارج حدود الأدب
المرآة؛ ذلك اللغز المحير الذي استحوذ على ألباب الكثير من الفلاسفة والأدباء والمفكرين على مر العصور، ذلك الانعكاس الذي استلب العقول، وأثار التساؤلات حول ماهيته وحقيقته ومدى مصداقيته. كيف رآه الفيلسوف الدنماركي "سورين كيركجارد"، وكيف استفزه لتأسيس أمثولته الخالدة عن المرآة التي تتخطى بعمق فلسفتها حدود الزمان والمكان؟
«مرآتي، يا مرآتي على الجدار، من هي أجمل النساء في الأمصار؟» ذلك التساؤل الذي لا يخلو من بُعد فلسفي حينما كتبه الأخوان "جريم" في قصة "سنو وايت" عام 1812، لم يكن فقط مجرد تساؤل لشخص شرير في قصة للأطفال، بل كان تأسيسًا لربط المرآة بالأنا وحب الذات والغطرسة والنرجسية.
وعلى ذكر النرجسية أيضًا، ذلك المرض النفسي الذي أسس له "سيغموند فرويد"، نجده قد ربطه بشكل مباشر بأسطورة الشاعر الروماني "أوفيد" التي افتتن بطلها "نركسوس" حينما رأى انعكاس صورته على صفحة الماء. نلاحظ هنا أيضًا – وللمصادفة – أن للمرآة الدور الرئيس في تلك الأسطورة.
ولكن الفيلسوف الدنماركي "سورين كيركجارد" تناول المرآة بشكل لافت في أمثولته التي أتى على ذكرها في شذرات بالعديد من كتاباته، حيث استخدم المرآة كرمز دائم ومتكرر في تحليله لـ "الذات" و"الحرية" و"الوعي". فقد لخصها في كتابه "أعمال المحبة" في قوله: "الإنسان يعكس نفسه في الآخرين، فيصير الصورة التي يتوقعون أن يروها".
وكأنه في ذلك المقطع لخص نظرة الإنسان لنفسه في مرآة من حوله، مسلطًا الضوء على تلك المفارقة الفلسفية الجدلية، التي تدفع الإنسان ليُنتزع من ذاته الحقيقية ويلتبس الرداء الذي يرى فيه طريقة تصور الناس له، فيتوه الإنسان عن نفسه، وتضل روحه الطريق بعيدًا عن ذاته، ويظل سجين تلك الصورة النمطية التي يراها المجتمع فيه، ويرى نفسه ناجحًا فقط من خلالها.
وربما يكون كيركجارد قد أبرز خطورة ذلك الانسلاخ في كتابه "إما.. أو" حينما قال: "أعظم المخاطر جميعًا هو أن يفقد الإنسان نفسه، وهذا يحدث في العالم بصمتٍ تام، كما لو أنه لا شيء على الإطلاق." هنا يشير إلى أن فقدان الذات أبدًا لا يحدث فجأة أو عنفًا، بل يحدث تدريجيًا حين نسمح للمرآة (الآخرين) أن تحدد من نحن.
واليوم، في خضم تلك المنصات والوسائل والمجتمعات التي نتعرض لها في حياتنا اليومية، نكاد نواجه آلاف المرايا في الوقت ذاته. ففي مرآة "إنستجرام" نستعرض ترف حياتنا اليومية، وأناقة الملابس والابتسامة الساحرة التي نمني النفس أن يراها فينا ذلك المجتمع.
وفي مرآة "فيس بوك" نطلق روح الفكاهة والكثير من الثقافة والعلم ببواطن الأمور، لنبرز تلك الشخصية المرحة المثقفة العارفة أمام مجتمع "فيس بوك". وفي مرآة "إكس" لا ضير من بعض النقد والحرية والآراء الجريئة، لأن ذلك ما يناسب صخب تلك المرآة.
ولكل جيل مرآته بالتأكيد، فجيل "زي" وشغفه بالمقاطع القصيرة عبر "تيك توك"، والتواصل عبر "ديسكورد" ومنصات الألعاب، ليتقمصوا مرآة الرجل أو البطل. وتختلف تلك المرايا بالتأكيد عن مرايا جيل "ألفا" وعن مرايا جيل "الألفية" الذي ما زال يحتفظ بمرآة زملاء العمل، ومرآة الوجاهة الاجتماعية، ومرآة الأسرة والأصدقاء وغيرها من المرايا.
ففي وسط آلاف الانعكاسات التي نواجهها كل يوم، نفقد هويتنا الحقيقية وننسى ما نحن عليه أصلًا، كما قال أيضًا كيركجارد في يومياته: "مرآة هذا العصر مملوءة بالدخان، الجميع يرى نفسه فيها، ولكن لا أحد يعرف ما الذي يراه حقًا." ليته يحيا بيننا الآن ليرى كم الدخان الذي يزكم الأنوف ويغشى الأبصار والبصائر. فقد استطاع "سورين كيركجارد" أن يستشرف مرايا العصر ويعبر عنها في أمثولته الفلسفية تلك، وكأنه الآن يرى البشرية وهي تنسلخ عن ماهيتها الحقيقية.
إلا أنه قد أسس للحل في الأمثولة ذاتها حينما قال: "أن تنظر في مرآة كلمة الله، هو أن ترى نفسك كما أنت حقًا." فقد ساق لنا الدواء مع أسبقية تحليله وتشخيصه للداء. فمرآة كلمة الله، التي هي مرآة الحق والأخلاق والقيم والمثل، هي فقط المرآة التي يجب أن نقيم ونرى أنفسنا من خلالها، وهي المرآة الوحيدة التي تستحق أن نكترث لها ونرى أنفسنا الحقيقية من خلالها في أبهى حُلّة وصورة. حينها فقط سيصل الإنسان إلى نتاج تلك المعادلة الذي استعصى على الجميع نيله الآن، ألا وهو الرضا.
صديقي، انظر في مرآة الحق، مرآة الخالق، لترى كُنه ذاتك الحقيقي، ولتشفي أسقام نفسك بترياق الرضا.
الأكثر قراءة
-
توقعات الأبراج اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025، هناك فرص كثيرة متاحة
-
وداعاً داود عبد السيد.. فيلسوف السينما المصرية
-
بعد إعلان اغتياله رسميًا، "حماس" تكشف عن صورة واسم أبو عبيدة الحقيقي
-
بعد إعلان "القسّام" اغتياله رسميا، من هو أبو عبيدة؟
-
موعد مباراة المغرب وزامبيا في كأس الأمم الأفريقية والقنوات الناقلة
-
نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 في جولة الإعادة بسوهاج
-
"اتجوزت 4 مرات ومعايا إعدادية".. نص التحقيقات مع البلوجر نورهان حفظي (خاص)
-
الحصر العددي لأصوات الدائرة الأولى بالفيوم، محمد فؤاد زغلول يتصدر
مقالات ذات صلة
فوز مصري صعب؛ على نغمات الموتور الخربان| خارج حدود الأدب
26 ديسمبر 2025 10:51 م
الست ما بين قبول «الخلاعة» ورفض «اغضب» | خارج حدود الأدب
21 ديسمبر 2025 05:21 م
سياحة القنص: العار الأوروبي الذي فضحته مباراة كرة قدم! | خارج حدود الأدب
17 نوفمبر 2025 03:29 م
مدد يا ممداني مدد! | خارج حدود الأدب
05 نوفمبر 2025 06:23 م
أكثر الكلمات انتشاراً