الخميس، 15 مايو 2025

01:03 ص

ترامب لا يشرب القهوة.. لكنه يعرف متى يطلُب الحساب

في الدول العربية، فنجان القهوة ليس مشروبًا، بل طقس، عادة تبدأ بها جلسات الصلح، وتُختم بها حروب القبائل، وتُقدّم في استقبال الضيوف كرمز للترحيب… أو التحذير. لكن الزائر هذه المرة، لم يشرب قهوته. السيد ترامب، رئيس أمريكا الذي اعتاد أن يمضغ القرارات أكثر مما يقرأها، جاء إلى المنطقة، ورفض فنجان القهوة.
ربما لم يفهم أن القهوة هنا ليست خيارًا، بل إعلان نوايا أو ربما فهم، وقرر أن يُعلن نواياه بطريقته؛ لا قهوة… فقط فواتير. فعندما كان المطار مكتظا، والأعلام ترفرف، والخيول تجري على الإسفلت وكأنها تقرأ بروتوكول "ما قبل القرن الواحد والعشرين"، يهبط ترامب بكامل أناقته البرتقالية – تلك التي لا تتغير منذ موسم الانتخابات الأول – ويصافح، يلوّح، يبتسم… لكنه لا يقترب من القهوة.
البعض قال إنها عادة صحية.. البعض قال إنه لا يريد أي خطأ بروتوكولي، كأن يخطئ في حمل الفنجان.
لكن الحقيقة أبسط من ذلك: هو لم يأتِ ليشارك الطقوس، بل ليحصّل الحساب؛ هو لا يهتم إن كان الفنجان مرًّا أو حلوًا… هو فقط يريد أن يعرف: من سيدفع؟
ففي الغرف المغلقة، كانت القهوة تُستبدل بقوائم طويلة من المشتريات؛ عقود تسليح ضخمة، وصفقات طيران متقدمة، وتفاهمات أمنية وتقنية… كلها جرى ترتيبها على طاولة اللقاء، وسط ابتسامات دبلوماسية وكلمات منمقة. لم تكن زيارة عادية، بل أقرب إلى معرض دولي متنقل، يعرض فيه الرئيس الأمريكي بضاعته السياسية والاقتصادية، ويقرأ جيدًا خرائط المصالح المتبادلة.

ترامب، بتكوينه التجاري المعروف، يعرف متى يمدّ اليد بحرارة، ومتى يُلمّح بلغة المصالح. هو لا يتحدث كثيرًا عن المبادئ، لكنه بارع في التفاوض على المكاسب. وفي كل الحالات… الثمن يُدفع. فترامب لا يفرض، بل يساوم. لا يهدد، بل يُذَكِّر بأن كل شيء له ثمن، ولغته المفضلة ليست المبادئ، بل المكاسب. أما الشعارات، فتُترك للبيانات الختامية.

وفي خضم التفاصيل، تراجعت الأسئلة الكبرى إلى الصفوف الخلفية. فلسطين لم تُذكر، الأزمات المستمرة لم تُناقش، وأحوال الشعوب لم تُطرح. بدا المشهد كما لو أن السياسة تُدار بنفس أدوات الأسواق المفتوحة، حيث القيمة تُقاس بالمليار، والمواقف تُقاس بالعائد المتوقع.
وفي الجهة الأخرى من العالم، جلست الصين تراقب بصمت؛ لم تشارك في المشهد، لكنها دوّنت الملاحظات. هناك حيث لا تُشرب القهوة أيضًا، لكن يُقرأ الفنجان بطريقة مختلفة، فالصين تُراقب. تتعلم. تستثمر في الهدوء بينما ترامب يريد النفط الآن، والصفقات الآن، والمليارات فورًا. الصين تبني ميناءً، وتوقّع عقدًا لـ 25 عامًا، ثم تُدرّس لغة البلد في جامعاتها. 
الفرق كبير الأول يبتلع اللقمة، والثاني يزرع الحقل. 

في النهاية، لم يكن ترامب بحاجة لأن يشرب القهوة. لقد أخذ كل ما يريد. الصفقات، الصور، الابتسامات، وربما تسجيلًا جديدًا يمكن استخدامه في الانتخابات المقبلة. أما نحن، فجلسنا حول الطاولة، نُقلب الفنجان، نقرأ ما تبقّى في القاع، ونكتشف – كالعادة – أن الطالع… مُرّ.

search