الخميس، 05 يونيو 2025

06:43 ص

قضية الباز ونجم.. الكلمة تُقال ولا تُحبس

ربما تختلف مع الإعلامي محمد الباز. وربما ترفض نبرة حديثه أو مضمونه؛ لكن، في النهاية، سيظل الخلاف بالرأي هو حق مكفول بالدستور، لا يجب أن يُقابل بعقوبة سالبة للحرية.

حكم محكمة الجنح الاقتصادية بحبس الباز شهرًا، وغرامة وتعويض، أعاد إلى السطح قضية قديمة متجددة: هل يُحبس الناس على الكلمة؟ هل العقوبة المناسبة في قضايا النشر هي السجن، أم الرد والتفنيد والمحاسبة المهنية والقانونية غير المقيدة للحرية؟

الملفت في هذه القضية لم يكن فقط مضمون الحكم، بل ردود الأفعال التي أعقبته. نقيب الصحفيين الأستاذ خالد البلشي لم يتأخر عن إعلان موقف واضح وهو رفض الحبس في قضايا النشر، التزامًا بنص المادة 71 من الدستور، والمادة 29 من قانون الصحافة والإعلام، والتي تمنع الحبس في قضايا النشر باستثناء التحريض على العنف أو التمييز أو الطعن في الأعراض.

لم يدافع النقيب عن محتوى ما قاله الباز، بل تمسّك بمبدأ، حتى وإن اختلف مع الشخص أو الأداء؛ والمبدأ هنا هو: أن الكلمة تُناقش، لا تُكَبَّل. وأن الحرية لا تُقاس بالمحبة أو الخصومة، بل تُقاس بمدى ثباتنا على احترامها.

أما الموقف الأكثر نبلاً، فجاء من نوارة نجم، ابنة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، صاحبة الدعوى نفسها. والتي قالت بوضوح: أُدين ما قاله الباز بحق والدي، لكني لا أقبل حبسه، وتنازلت عن الدعوى الجنائية احترامًا لموقف النقابة، وتمسكًا بفكرة أن القلم لا يُواجه بالقيد، بل بالمهنة والمواثيق والردود الواعية.

موقف نوارة، في جوهره، ليس فقط دفاعًا عن حرية النشر، بل تذكير أن العقوبات البديلة، كالغرامات، والاعتذار، والمساءلة المهنية، هي السبيل الأجدى لبناء مناخ إعلامي ناضج.

فالتمسك برفض الحبس في قضايا النشر لا ينبع فقط من مواد دستورية محلية، بل يتسق تمامًا مع المعايير الدولية لحرية الرأي والتعبير، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صدّقت عليه مصر، وينص في مادته الـ ـ19 على حماية الحق في التعبير دون تدخّل غير ضروري أو تعسفي.

بل إن مصر نفسها، خلال خضوعها لآلية الاستعراض الدوري الشامل الأخير في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، قدمت له مجموعة كبيرة من التوصيات -11 توصية – دعت إلى تعزيز حرية الإعلام، ومراجعة القوانين التي تُجيز الحبس في قضايا النشر. -ومن المتوقع أن توافق على هذه التوصيات خلال جلسة الاعتماد في يوليو المقبل- وهو ما يجعل من الواقعة الأخيرة مناسبة للتأكيد على هذا الالتزام، وتحويله من تعهد دولي إلى ممارسة تشريعية فعلية.

في نهاية الأمر، لا أحد فوق القانون، لكن القانون نفسه لا بد أن يراعي روح الدستور، وأن يفرّق بين جريمة الرأي وجريمة الفعل. وحين تنتصر الضحية للمتهم، وتطالب بحرية الكلمة حتى لمن أساء، نكون أمام لحظة نادرة من السمو الإنساني والمهني.

ولعل هذه الواقعة تكون فرصة لتفعيل مطالب نقابة الصحفيين، في تعديل التشريعات بما يضمن احترام حرية النشر، ومحاسبة المخالفين دون المساس بجوهر الحريات.

فالمهنة تُصلَح من الداخل، بالقيم، لا بالقضبان. والكلمة القوية لا تحتاج إلا إلى كلمة أقوى..

search