في حب مصر
تسيطر عليّ رغبة جارفة في الانفصال عن الواقع الصعب الذي نعيش فيه، بما يحيط بنا من قلق وتوتر ومخاوف من حرب هنا، وصراع هناك، وكارثة إنسانية مستمرة في غزة التي يتعرض أهلها للحصار، والتجويع، والقتل، والتشريد..
نحتاج أحياناً إلى الانفصال عن واقعنا الشخصي، وما نتعرض له من ضغوط في العمل، والحياة، ونتوقف للحظة عن الركض وراء ما لا نصل إليه أبداً من أهداف وطموحات حولتنا إلى آلات عديمة الإحساس والمشاعر.
هناك ألف فكرة يمكن الكتابة عنها، عن مواقف سلبية وأخرى إيجابية، وأمور ربما تهم فئة من المجتمع، لكن في ظل حالة جدل أثيرت في الأيام الأخيرة بالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، أود الكتابة، “في حب مصر”
بلغتنا العامية "الشخص الخفيف لا يمكنه التحكم في مشاعره" وبالتالي يسهل التنبؤ بتصرفاته وردود أفعاله، وهذا للأسف ما رصدته من حالة الغضب والتبرير والدفاع التي تزامنت مع زيارة ترامب، وهل تجاهل مصر، ولماذا، وهل نتعرض للتهميش، وكيف نعامل بهذه الطريقة ونحن نتحمل هموم هذه المنطقة"
ثم انتقل كثيرون إلى مرحلة الهجوم مؤكدين بكل غضب أننا ندفع فاتورة مواقفنا الشجاعة الرافضة لإخضاع الإرادة العربية، وتهجير الفلسطينيين، وغيرها من مواقف لا يختلف اثنان على عظمتها وصلابتها..
بكل أمانة، أختلف مع كل السادة المحترمين الذين تبنوا هذه الآراء اللطيفة الخفيفة الجميلة، فهم كمن وقف يصرخ في العراء قائلاً، لماذا تهمشوني؟!!
نحن في أمس الحاجة، حكومة وشعباً في إعادة النظر إلى قيمة بلادنا، قبل أن نمثلها ونتحدث عنها بلغة المدافع البائسة..
" أغمضوا أعينكم لحظة، وحاولوا أن تعيشوا ذاك المشهد المهيب الذي صورته الآية الكريمة، " أليس لي مُلْك "مصر" وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟
تخيلوا أنكم أحد رعاة فرعون، أو أفراد حاشيته، وهو يتحدث بهذا القدر من الفخر والإجلال للبلد الذي يحكمه.
أدرك جيداً أن الوضع الراهن ربما لا يكون الأفضل بسبب تراجع الأحوال الاقتصادية، لكن هذا لا يخل بقيمتنا، فالثراء لا يستمر وكذلك الفقر، وقد شهدت بلادنا فترات أسوأ، وعانى شعبها من أوضاع أكثر بؤساً وصعوبة، لكن لا يزال يكافح ويقاوم ويتطور.
نحن مدمنون جلد الذات، ولا نقدر أنفسنا وتاريخنا وإرثنا بما فيه الكفاية، ونبالغ في التقليل من قيمتنا، والغريب أننا نغضب حين يفعل ذلك غيرنا؟!
هناك نفر من المصريين الذي يعيشون في الخارج، خصوصاً في الدول التي تتمتع بشيء من الرفاهية، يكيلون أسهم النقد والسخرية من بلادهم، ولا يملون من المقارنة الظالمة غير الموضوعية، وهم مثل محدثي النعمة الذي تمردوا على أصولهم الفقيرة حين أنعم الله عليهم بشيء من المال!
وهناك نفر من المصريين في الداخل، يبالغون في "تقدير" الآخر، خصوصاً الضيوف الذين يزرون بلادنا بقصد السياحة أو غير ذلك، فيتصرفون بكثير من الوضاعة طمعاً في نفحة كريمة أو عطية غير مستحقة، دون أن يدركوا ان هذا يترك انطباعاً سلبياً ويترجم إلى عدم احترام لكل المصريين!
وهناك مسؤولون يتصرفون مع الناس كأنهم عالة، لا يستحقون أكثر مما يمنح لهم، وعليهم أن يحمدوا ربهم وحكومتهم على ما هم فيه، مثل ذلك الوزير الذي تحدث بلغة الواهب المانح في إحدى المناسبات.
وهناك برلمان لا يعبر بأي حال من الأحوال عن الشعب المعني بتمثيله، ولا يؤدي درواً أكبر من سن تشريعات، أعتقد أنهم لا يعرفون كثيراً عن تفاصيلها، حتى انفصل الجسد عن الرأس وتحولت الانتخابات إلى عرس يزف فيه صاحب "النقطة" الأكبر!
وهناك وهناك وهناك، لكن مع كل ذلك تبقى مصر، عظيمة أبية شامخة، تعاني في ألم وصمت، مدركة أنها قلب هذا الكوكب، وشاهدة على تاريخ عظيم، وأرث محفور في جينات هذا الشعب..
من يسافر كثيراً يدرك أننا لسنا بالسوء الذي يريدون إقناعنا به، ففي مصر يمكن أن تستمتع بكل شيء، هواة البحر، يجدون أفضل شواطئ في العالم، والمثقفون يجدون ما يغذي عقولهم وأرواحهم، والمتدينون بكل انتماءاتهم يمكنهم اقتفاء آثار أنبيائهم وأحبارهم وكهانهم وشيوخهم، وحتى محبو السهر يجدون أفضل الأماكن..
مصر مقصد لكل عاشق مهما تنوعت الميول والرغبات، ولا تحتاج سوى مزيد من الحكمة في الإدارة، ولا شك أنها شهدت في السنوات الأخيرة نهضة ملموسة على مستوى البنية التحتية، لذا أجزم لو منحت الفرصة كاملة فسوف تقفز سنوات إلى الأمام..
قناعتي أن الحكومة تحتاج إلى إدراك قيمة الشعب المصري، فهو الضمانة لمستقبل أكثر رخاء، بما يملكه من ثروة شبابية تحسدنا عليها الأمم،
وقناعتي أن الشعب في حاجة إلى إدراك قيمة بلاده، فيتمسك بكرامته وعزته وكبريائه، محموداً على صبره وكفاحه في هذه الظروف الصعبة.
قناعتي أن مصر تستحق كثيراً أفضل مما هي فيه الآن، وأثق أن ذلك سوف يتحقق لأن بنيانها متين، تضرب جذوره في أعماق التاريخ .. مصر" يا لعظمة الاسم وهيبة المسمّى..

مقالات ذات صلة
البنزين المغشوش وحديث الدكتور مدبولي
07 مايو 2025 11:09 م
عاقبوا بقية المتورطين في مأساة "طفل البحيرة"!
30 أبريل 2025 08:27 م
قبل أن نزايد على الأطباء!!
23 أبريل 2025 03:38 م
بكتيريا سامة.. أم استهداف لـ"بلبن"؟!
19 أبريل 2025 02:39 م
أكثر الكلمات انتشاراً