الثلاثاء، 03 يونيو 2025

05:14 م

مؤتمر الاستثمار في إفريقيا.. حينما تصدح القارة بصوت إرادتها

رغم أن الحديث عن "الفرص الإفريقية" لم يعد جديدًا في الأدبيات السياسية والتنموية، فإن القارة لا تزال عالقة في مفارقة عجيبة: تمتلك كل مقومات النهوض، لكنها تتحرك ببطء؛ تزخر بالثروات الطبيعية والموارد البشرية، لكنها أكثر القارات هشاشة في مؤشرات التنمية والاستقرار، وفي قلب هذا التناقض، تبرز مؤتمرات علمية مثل الذي نظمته كلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، كمحطات ضرورية لإعادة التفكير في مستقبل القارة من الداخل، وليس عبر استيراد الحلول من الخارج.

يرأس الكلية الأستاذ الدكتور عطية الطنطاوي، وهو من الأصوات الأكاديمية التي تؤمن بأن المعرفة ليست ترفًا، بل أداة لإعادة بناء العلاقات الإفريقية على أسس الشراكة الحقيقية، ومن هنا، لم يكن هذا المؤتمر مجرد فعالية أكاديمية تقليدية، بل منصة تحليلية لقراءة التحولات الجارية في القارة، وإعادة طرح السؤال الحاسم: لماذا تتقدم أطماع العالم في إفريقيا بينما تتراجع الإرادة الإفريقية في امتلاك القرار.

المؤتمر جاء تتويجًا لتعاون مؤسسي بين الكلية ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء، الذي يرأسه الدكتور أسامة الجوهري، ما منحه بعدًا تطبيقيًا غير مسبوق، فوجود مسؤولي المركز، كل باسمه وصفته - الدكتورة نهلة السباعي الإدارة المركزية لدعم القرار أو الدكتورة خديجة عرفة رئيس محور التواصل المجتمعي والدكتور ياسر عبدالعزيز مدير المراسم، أضفى على المؤتمر ثقلاً رسميًا، وأكد على تقاطع المسارات بين البحث العلمي وصناعة القرار، وهو تقاطع طالما افتقدته إفريقيا، فتركت الساحة فارغة لقوى دولية تتسابق على النفاذ إلى القارة من بوابات الاستثمار الظاهري والتغلغل السياسي العميق.

لعب الأستاذ الدكتور محمد سامي عبد الصادق، رئيس جامعة القاهرة، دورًا محوريًا في دعم هذا المؤتمر الإفريقي منذ مراحله التحضيرية الأولى، انطلاقًا من قناعة مؤسسية بأن الجامعة يجب أن تكون فاعلًا رئيسيًا في القضايا الاستراتيجية التي تمس مستقبل الدولة والقارة، وقد تجلّى هذا الدعم في توفير الغطاء الأكاديمي والإداري الكامل لإنجاح الفعالية، وتأتي مشاركته الرسمية في الجلسة الافتتاحية تأكيدًا على التزام جامعة القاهرة بأداء دورها الفكري والتنموي في محيطها الإفريقي، وتعزيز علاقاتها العلمية مع مؤسسات القارة، في سياق يستلزم من مصر توسيع حضورها الأكاديمي والدبلوماسي إزاء التحديات الإقليمية المتسارعة.

في هذا السياق، طرح عدد من المشاركين —من الباحثين والدبلوماسيين— قراءات متعددة لكيفية توطين الحلول داخل إفريقيا نفسها، بدا من أوراق المؤتمر أن التحدي الأساسي لا يتعلق بندرة الموارد، بل بكيفية إدارة تلك الموارد، والأهم من ذلك: الاستثمار في الإنسان الإفريقي، وهو ما أكده عالمها الجليل نائب رئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا والبحوث، الدكتور محمود السعيد في الجلسة الأولى، الذي يضفي تواجده على المؤتمر أهمية بوصفة وأحدًا من أفضل 2% من علماء العالم في مجالات البحث العلمي، وقد ناقشت الجلسة أبعاد الفساد، ضعف المؤسسات، ومعوقات الاستثمار، بوصفها عقبات ذات جذور داخلية، يمكن تجاوزها بإرادة إصلاحية حقيقية.

وقد انعكس هذا التوجه في أوراق بحثية قدّمت تحليلات كمية حول العلاقة بين مكافحة الفساد وجذب الاستثمار، فضلاً عن أهمية الاقتصاد الأخضر، وبين تطوير البنية المؤسسية ورفع كفاءة رأس المال البشري، ما يجعل التنمية الاقتصادية أداة تحصين حقيقية ضد التهديدات الأمنية والاجتماعية، وليس مجرد هدف اقتصادي.

من الجوانب اللافتة في المؤتمر، الدور الذي لعبته الدكتورة سالي فريد، أستاذ الاقتصاد رئيس قسم السياسية والاقتصاد بالكلية ومقررة المؤتمر، والتي استطاعت أن تدمج بين المهارات الأكاديمية والتنظيمية لإخراج هذا الحدث بهذا المستوى من الكفاءة والدقة، خبرتها في الملفات الاقتصادية الإفريقية، إلى جانب دورها الإداري النشط، منحا المؤتمر انضباطًا وثراءً جعلاه نموذجًا لتفاعل العلم مع السياسة العامة.

ليس المطلوب من مصر استعادة دورها في إفريقيا بوصفها "الأخ الأكبر"، فذلك نموذج انتهى وتجاوزته السياقات السياسية الحديثة، المطلوب هو أن تتبنى مصر رؤية جديدة، تجعل من الشراكة مع القارة الإفريقية أداة للتكامل لا الهيمنة، وأن تُعلي من مصالحها القومية من خلال تعميق الوجود التعليمي والاستثماري والتقني في إفريقيا.

إن مؤتمر كلية الدراسات الإفريقية العليا يضع هذا المسار على طاولة النقاش، ويدعو صراحة إلى ألا يُترك المجال فارغًا، فالقارة ليست فراغًا جيوسياسيًا، بل ساحة متحركة تتسابق إليها القوى العالمية، في حين أن بعض دولها لا تزال حائرة بين الانغلاق والتبعية، وإذا كانت إفريقيا تحتاج إلى حلول، فإن تلك الحلول ينبغي أن تكون إفريقية المنشأ، واقعية التكاليف، مدفوعة بالإرادة السياسية، ومدعومة بالمعرفة.

في سياق ما طُرح خلال جلسات المؤتمر، برز تساؤل مهم يتجاوز الإطار الأكاديمي نحو دوائر صنع السياسات: أين هو الكيان المؤسسي المنسق الذي يتولى إدارة ملف العلاقات المصرية الإفريقية؟ فقد دعا المؤتمر ضمنيًا، ويفتح الباب صراحة، لإعادة طرح مطلب طالما تكرر من قبل الباحثين والدبلوماسيين والخبراء، وهو إنشاء وزارة للشؤون الإفريقية أو مجلس أعلى دائم يضم كافة الجهات المعنية بالملف الإفريقي في الدولة المصرية، من وزارات وجامعات ومراكز أبحاث ومؤسسات اقتصادية وتنموية، ورغم أن هذا المقترح طُرح سابقًا أكثر من مرة، فإن استجابته لا تزال محدودة، بل تواجهه – للأسف – بعض الأصوات الرافضة أو المترددة، على الرغم من الحاجة الملحّة إليه.

إن الواقع الإفريقي شديد التعقيد والتغير، والتعامل معه لا يمكن أن يظل مجزأ بين عدة جهات بدون تنسيق مؤسسي شامل، فالحلول الإفريقية يجب أن تبدأ من مصر، ومصر في المقابل تحتاج إلى أن تتحدث بصوت واحد تجاه إفريقيا، ومن دون كيان وطني موحد يعيد ترتيب أولويات السياسة الإفريقية، ويضمن التكامل بين الدبلوماسية والسياسات الاقتصادية والثقافية والتعليمية، سيبقى الحضور المصري يحتاج إلى رؤية أكثر تفاعلاً لوضعه فى المستوى الذي يتناسب مع عمقها التاريخي وقدراتها الحالية.

لا يمكن تناول مستقبل الدور المصري في إفريقيا دون الإشارة إلى الدور البارز الذي اضطلع به الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاسيما خلال توليه رئاسة الاتحاد الإفريقي عام 2019، حيث أعاد التأكيد على انخراط مصر في القضايا القارية على أعلى مستوى سياسي، وقد مثّلت مبادرات مثل "الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية"، وإهداء مصر لمركز مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة إلى دول تجمع الساحل والصحراء، مؤشرات عملية على التحول من الخطاب إلى الفعل، ومن الدعم الرمزي إلى تقديم أدوات تنفيذية حقيقية، هذه الجهود مجتمعة تعكس قناعة الدولة المصرية بأهمية أن تكون طرفًا فاعلًا في بناء أمن وتنمية القارة، لكنها في الوقت ذاته تُبرز الحاجة الملحّة إلى تنسيق داخلي فعال بين مؤسسات الدولة المختلفة، حتى تتكامل تلك المبادرات تحت رؤية واحدة واستراتيجية واضحة، فنجاح الدور المصري إفريقيًا لن يكون فقط عبر المبادرات المنفردة، بل من خلال توحيد الجهود تحت مظلة مؤسسية متماسكة تقودها رؤية وطنية شاملة تجاه القارة.

لذلك، فإن من أهم مخرجات هذا المؤتمر – وإن لم تُصرّح بها البيانات الختامية – هو استدعاء هذا النقاش مجددًا، ودعوة صريحة إلى أن يكون عام 2025 عامًا لإعادة التفكير الجاد في بناء هيكل مؤسسي مستدام للعلاقة بين مصر والقارة الإفريقية.

search