الخميس، 29 مايو 2025

04:08 ص

لم يكن الفقد يومًا في الرحيل فقط.
A A

الذين قالوا ‘أنا بخير’.. وصدّقناهم.. ثم رحلوا في صمت

لم يكن الفقد يومًا في الرحيل فقط.

الفقد الحقيقي أحيانًا لا يُحدث صوتًا. لا ضربة باب، ولا مكالمة مقطوعة، ولا جنازة.
أحيانًا، تفقد من تحب وهم أمامك، بنفس الوجه، بنفس الاسم… لكنهم لم يعودوا كما كانوا.

إنهم هناك، يجلسون على الكرسي ذاته، يحتسون القهوة من ذات الفنجان، لكنك لا تراهم.
تشعر بأن شيئًا ما انكسر فيهم. ربما ضاع. وربما هم أنفسهم لا يعرفون متى أو أين أو كيف ضاع.

الفقد الصامت هو الأصعب.
أن تنظر في عيني شخص وتعرف أنه لم يعد هنا بالكامل. أن قلبه غادر قبله، وترك وراءه جسدًا يؤدي ما تبقّى من الحكاية، فقط لأن عليه أن يفعل.

والحنين؟
الحنين ليس دائمًا لمن غابوا.
أحيانًا نشتاق لأنفسنا القديمة. نشتاق لصباح لم يكن فيه قلق، لصوت ضحكة لم نضطر لافتعالها، لنومٍ بلا منوّم، لبكاءٍ لا نُخفيه.

نشتاق لنسخة منا… كنا نحبها، قبل أن نُضطر لارتداء ألف قناع، وقبل أن نصبح “بخير” طوال الوقت لأن لا أحد يحتمل ضعفنا.

“أنا بخير”…
جملة صغيرة تبدو بريئة.
لكنها غالبًا تعني : “لا تسألني أكثر، لا تفتح الجرح، لا أتحمّل انهيارًا جديدًا.”
نقولها كلنا. كل واحد بطريقته.
بعضنا يبتسم وهو يقولها، وبعضنا يضحك بصوتٍ عالٍ، وبعضنا يصمت تمامًا.

لكننا نعرف الحقيقة : الذين قالوا “أنا بخير” لم يكونوا كذلك.
كانوا فقط بارعين في التمثيل، متعبين من الشرح، ومتأكدين أن لا أحد سينقذهم حتى لو نطقوا بكل شيء.

الفقد لا يحتاج إلى جنازة ، بل إلى ذاكرة… والحنين لا يُكتب، بل يُشعر.
ولهذا، نحمل أوجاعنا بصمت، نمارس الحياة بروتينها القاسي، ونحاول النجاة، على أمل أن يسألنا أحدهم، ذات مساء:

“هل أنت حقًا بخير؟”

لكن السؤال لا يأتي… أو يأتي متأخرًا.

فالحنين لا يطرق الباب، بل يدخل كصديق قديم لا يحتاج إلى دعوة. يُقيم في الروح، ويوقظ الذكريات من سباتها. لا نسميه حزنًا ولا فرحًا… بل شعورًا خافتًا يتسلل إلينا حين يغيب كل شيء. هناك أشخاص لا يغيبون، حتى لو لم نعد نراهم. يرافقوننا في الموسيقى ، في الأماكن ، في التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد سوانا .
 

“أقسى ما في الحنين ، أنك تشتاق لشيءٍ مضى ، لا تدري إن كان سيعود، ولا إن كنت حقًا تريده."

سؤال أخير لك أيها القارئ:
هل ما زلت تتذكر آخر مرة كنت فيها صادقًا حين قلت: “أنا بخير”؟

search