الجمعة، 06 يونيو 2025

02:39 م

الدبلوماسية العلمية.. جسر مصالح الدول وتهدئة الصراعات

في عالم متغير سريع، تلعب الدبلوماسية العلمية دورًا متزايد الأهمية في تشكيل مصلحة الدول وتوجيه العلاقات الدولية نحو مسارات أكثر استقرارًا وتعاونًا، فالعلم ليس مجرد مصدر معرفي محايد، بل هو أداة فعالة يمكن أن تُستثمر في تعزيز السلام وتقليل احتمالات النزاع، لا سيما في عصر يشهد تنافسًا متصاعدًا بين القوى الكبرى.

الدبلوماسية العلمية تجمع بين عنصرين رئيسيين: العلم والدبلوماسية، لتكون جسرًا بين المعرفة التقنية والعلاقات السياسية، ووفقًا للنظريات الحديثة في العلاقات الدولية، فإن التعاون بين الدول في المجال العلمي لا يهدف فقط إلى المكاسب المادية أو التكنولوجية، بل يشمل تقليل الآثار السلبية الناجمة عن التهديدات المشتركة، كالكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الأزمات البيئية.

لقد كشف وباء "كوفيد-19" عن هشاشة الحدود بين الدول وأهمية التعاون العلمي الدولي في مواجهة تهديدات عالمية لا تفرق بين دولة وأخرى. فالفيروس، كعامل فاعل غير مرئي، فرض على المجتمع الدولي ضرورة العمل الجماعي خارج نطاق التنافس التقليدي، وبالرغم من تحديات التعددية الدولية، وبروز النزعات القومية، فإن الدبلوماسية العلمية قدّمت نموذجًا حيويًا لكيفية تجاوز هذه الحواجز من أجل المصلحة المشتركة.

ومع تصاعد المخاطر البيئية وتغير المناخ، تتعاظم الحاجة إلى استراتيجيات دبلوماسية علمية تعزز التعاون، لا فقط بين الدول، بل بين المجتمعات العلمية والدبلوماسيين، لتأمين مستقبل أكثر استقرارًا للبشرية.

أحد أبرز الأمثلة على الدبلوماسية العلمية هو الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5+1) عام 2015، الذي يبرز كيف يمكن للعلاقات الشخصية بين العلماء والدبلوماسيين أن تسهم في بناء جسور تفاهم بين دول متنازعة. 

في هذا السياق، لعب العالم الفيزيائي النووي إرنسوت مونيز، وزير الطاقة الأمريكي آنذاك، دورًا محوريًا بفضل خلفيته العلمية العميقة وعلاقته بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. مقابل ذلك، كان الدكتور علي أكبر صالحي، رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، يمتلك الدكتوراه في الهندسة النووية من نفس المعهد، مما شكل نقطة التقاء علمية ودبلوماسية فريدة.

هذا التلاقي بين عالمين من خلفيات متشابهة، رغم انتمائهما لدول متنافرة، سمح لهما بالتفاوض والتفاهم حول تفاصيل تقنية معقدة، ساهمت في تحقيق اتفاق نجح جزئيًا في تهدئة التوتر بين طهران وواشنطن، وهذا النموذج يعكس كيف أن الدمج بين العلم والدبلوماسية لا يقتصر على تبادل المعلومات، بل يتخطاه إلى بناء الثقة والاحترام المتبادل.

مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الدبلوماسية العلمية تواجه تحديات جسيمة، أبرزها غلبة المصالح الوطنية الضيقة، وضعف التعددية، وتصاعد التنافس التكنولوجي بين الدول العظمى، خصوصًا في ميادين مثل الذكاء الصناعي والفضاء والتقنيات الحيوية، فالدول ليست سوقًا مفتوحًا لتبادل المعرفة والتقنيات بلا حدود، فالاعتبارات الأمنية والاستراتيجية تحدد بالدرجة الأولى طبيعة ما يمكن مشاركته، هذا ما يجعل الدبلوماسية العلمية مسعىً دقيقًا يحتاج إلى توازن بين حماية المصالح الوطنية والانفتاح على التعاون الدولي الضروري لمواجهة التحديات المشتركة.

رغم التحديات، لا يمكننا تجاهل القوة التحولية التي يحملها الدمج بين العلم والدبلوماسية، في عالم يزداد تعقيدًا وتداخلًا، أصبحت المعرفة العلمية ليست فقط مصدرًا للتقدم التكنولوجي، بل أداة سياسية ودبلوماسية بامتياز.

الحقيقة أن مصر تمتلك موقعًا استراتيجيًا فريدًا يؤهلها لتكون مركزًا محوريًا للدبلوماسية العلمية في المنطقة العربية وإفريقيا، حيث تلعب دورًا فاعلًا في ربط المعرفة العلمية بالتوجهات السياسية والدبلوماسية لتحقيق مصالحها الوطنية والإقليمية، من خلال تاريخها العريق في العلم والحضارة، وبنيتها التحتية التعليمية والبحثية المتطورة، تمتلك مصر كل المقومات لتقود حوارًا علميًا دبلوماسيًا بين الشرق والغرب، وتكون جسرًا للتعاون الدولي في مجالات الابتكار التكنولوجي، والطاقة المتجددة، والاقتصاد، والطب، والبيئة.

دور مصر يتعدى حدود المعرفة التقليدية، فهي تملك القدرة على صياغة سياسات علمية مدروسة تعزز من أمنها القومي وتدفع بعجلة التنمية المستدامة، كما تستطيع استثمار الدبلوماسية العلمية لبناء تحالفات استراتيجية تحقق مكاسب متعددة الأبعاد، اقتصادية وسياسية واجتماعية، إذ تصبح الجامعات المصرية ومراكزها البحثية حاضنة لتوليد حلول علمية تسهم في معالجة التحديات الإقليمية مثل تغير المناخ، والأمن الغذائي، والأوبئة، مما يجعل مصر لاعبًا محوريًا في إعادة صياغة المشهد الدولي عبر العلم والتكنولوجيا.

إن استثمار مصر في تعزيز الدبلوماسية العلمية يمثل قوة ناعمة حقيقية تعزز من مكانتها العالمية، وتحولها إلى مركز جذب للعلماء والمبتكرين، وتفتح أمامها أبواب التعاون العلمي المتقدم، وترسي دعائم التحالفات القائمة على المعرفة والابتكار. بهذه الطريقة، تتحول مصر من مجرد متلقية للتقنيات إلى صانعة للسياسات العلمية والتكنولوجية التي تؤثر في مستقبل المنطقة والعالم.

search