الأحد، 27 يوليو 2025

07:29 ص

فرعون دارفور يستهدف الذكور.. قبيلة المساليت شاهدة على أوجاع السودان

امرأة سودانية حزينة (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)

امرأة سودانية حزينة (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)

ما كانت تحلم به أمل (اسم مستعار لحماية خصوصيتها) يبدو أنه أصبح قريب المنال، مع بدء انطلاق قوافل عودة السودانيين من مصر إلى وطنهم.

هربت أمل من جحيم صراع عسكري مستعر لا يرحم أحدًا، أما قصة معاناتها فتشبه مأساة بني قبيلتها "المساليت" الذين وجدوا أنفسهم مطاردين ومطرودين عبر الحدود إلى ملاجئ عمّقت حنينهم إلى أرضهم.

مشهد من انطلاق قطار العودة الطوعية للمواطنين السودانيين من مصر

بداية المعاناة في حياة أمل

في فجر يوم 15 أبريل 2023، انهارت حياة أمل، فلم تكن تعلم أن الحرب التي اندلعت بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ستخطف منها زوجها، أحمد آدم (اسم مستعار لحماية الخصوصية)، وكل ما تملك.

كانت البداية مجرد اشتباكات، لكن سرعان ما تحوّل الأمر إلى استهداف مباشر لقبيلة المساليت، في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور.. حُوصرت القبيلة لمدة 59 يومًا، خلال تلك الفترة، قُتل نحو 15 ألف شخص من المساليت، بينهم أطفال ونساء ورجال، بعضهم قُتل ذبحًا بالسكين، وبعضهم حُرق حيًا مع منازله، كانت الجثث تُحرَق، والمنازل تُنهَب.

دخلت قوات الدعم السريع إلى منزل أمل، أطلقوا الرصاص مباشرة على زوجها وزوج أختها الكبرى وقتلوهما في اللحظة نفسها، ثم أحرقوا المنزل وأجبروهما على الخروج.

"زوجي ما كان له علاقة بالسياسة، كان زول برئ، عايش برزق يومه"، تقول أمل، بصوت ممتلئ بالحسرة.

ليست جريمة فردية

لم تكن الجريمة فردية، بعد إخراج المساليت من الجنينة، تم رفع شعار جديد: "الجنينة ليست دار مساليت، بل دار عرب ودار جنيد"، في منطقة أردمتا، دُفن أكثر من 400 رجل من قبيلة المساليت أحياء، والناجون أيضًا تعرضوا للانتهاكات، فحتى أثناء الفرار، لم تسلم أمل ولا أطفالها من العذاب.

جزء من أهالي المساليت اتجهوا غربًا نحو تشاد سيرًا على الأقدام، وآخرون اتجهوا شرقًا، حيث سقط بعضهم في وادٍ وغرق حوالي ثلاثة آلاف شخص.

أمل كانت من الذين اتجهوا غربًا، وهي تحكي: “أنا مشيت على رجلي، وفي الطريق تعرضت للضرب والتعذيب أنا وأبنائي، وحتى طفلي الصغير، عمره خمس سنين، انضرب في رجله لحد ما اتكسرت”.

في تشاد، ورغم الأمان النسبي، لم تكن الحياة سهلة، فالمخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات العيش، لذا قررت أمل الانتقال إلى غانا مع أطفالها، على أمل النجاة، لكنها تصف غانا بأن "المعيشة فيها غالية، ولا توجد فرص عمل".

الآن، تعيش أمل لاجئة بلا عمل، محملة بذكريات لا تُنسى: التعـدي جنسيًا على النساء، وإنهاء حياة الصغار، وتدمير البيوت، وإبادة القبيلة.

ما حدث لعائلة أمل، وما حدث لزوجها أحمد آدم، ليس مجرد مأساة فردية، بل يمثل واقعًا يوميًا تعيشه العديد من الأسر في قبيلة المساليت، حيث يتم إنهاء حياة الذكور بلا تمييز في واحدة من أسوأ الجرائم التي شهدها الإقليم.


وبالنسبة لأمل، الزوجة والأم المساليتية، فهي لم تكن مجرد شاهدة على هذه المأساه فقط، بل حملت على عاتقها إرثًا طويلًا من المعاناة التي طالت قبيلة المساليت.


معاناة قبيلة المساليت

منذ استقلال السودان عام 1956، بعد موافقة بريطانيا على الانسحاب من السودان، عانت قبيلة المساليت من التهميش الاقتصادي والسياسي، كانت أراضيهم الزراعية الخصبة مصدر رزقهم الوحيد، لكنها ظلت دون تطوير أو دعم حكومي.

ولم تكن قبيلة المساليت بعيدة عن تداعيات الحروب والصراعات التي اجتاحت المنطقة؛ فخلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، ومع تدهور الأوضاع الأمنية في دارفور، تفاقمت النزاعات العرقية بين القبائل، فدعم الحكومة للقبائل العربية زاد من انعدام الأمان، ما أدى إلى نزوح واسع بين أفراد المساليت.

ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، ساهم الجفاف الذي أصاب المنطقة في تفاقم التوترات بين المزارعين والرعاة، ما أدى إلى تصاعد النزاع ليشمل القبائل العربية وغير العربية، مثل قبائل النجعة العربية، والرزيقات، والزغاوة، كما تفاقمت الأزمة بسبب موقف الحكومة التشادية من قبيلة المساليت، حيث كانت تتهمها بدعم المعارضة التشادية، ما زاد الأوضاع تعقيدًا.

سكان قبيلة المساليت

عاشت أمل كل هذه الظروف العصيبة، لم تكن فقط ضحية الحاضر، بل كانت شاهدة على عقود من التهجير والتدمير لثقافة وقيم شعبها.

فمنذ عام 2003، تعرضت قرى المساليت لهجمات مدمرة، عندما اندلعت الحرب في دارفور مع بدء حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة التمرد ضد الحكومة السودانية في ظل حكم الرئيس السابق عمر البشير، التي كانت تتهم باضطهاد السكان غير العرب في المنطقة.

وردت الحكومة السودانية بحملة عنيفة شملت تطهيرًا عرقيًا ضد السكان غير العرب في دارفور، أسفرت عن مقـتل مئات الآلاف من المدنيين، وتهجيرهم من قراهم، وحوكم البشير في مارس 2009، بتهم ارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل محكمة العدل الدولية.

تفاقمت الأوضاع الإنسانية مع تدمير القرى واضطرار العديد من أفراد القبيلة للجوء إلى المخيمات في تشاد، منذ 2019، ومع اندلاع الثورة السودانية وبدء النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ازدادت معاناة المساليت في دارفور، حيث تعرضوا لمزيد من الهجمات، ما دفع الكثير منهم للنزوح إلى دول الجوار.

مخيمات اللاجئين في تشاد

في 15 أبريل 2023، اندلعت صراع عسكري بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ودخلت قبيلة المساليت دوامة من العذاب الذي يتجاوز حدود الخيال. وفي البداية تركّزت المعارك في العاصمة الخرطوم، لكنها سرعان ما اجتاحت مدنًا أخرى أبرزها ولايات دارفور.

في ظل هذه الصراعات، عانت مدينة الجنينة، حيث تسكن قبيلة المساليت، أبشع أنواع الجرائم من قبل قوات الدعم السريع، والأكثر وحشية كان استهداف الرجال والأطفال الذكور بشكل خاص، ليصبح الذكور في قبيلة المساليت هدفًا لإبادة منظمة، كما كان الحال مع فرعون الذي خشي على ملكه من صبية بني إسرائيل.


أما بالنسبة لعبد الله عمر، الجندي بالجيش السوداني، فإن قصته تكشف حجم الألم والعجز الذي شعر به وهو يشهد أبشع الجرائم تُرتكب أمام عينيه.

جلس عمر يروي مأساة رآها عن امرأة تحمل طفلها الصغير بكل حب وخوف، تتشبث به كأنه آخر ما تملك، لكن قسوة الحرب انتزعت منها كل شيء، حين اكتشف جنود الدعم السريع أن الطفل ذكر، انتزعوه وأنهوا حياته أمام عينيها دون رحمة، صرخاتها وتوسلاتها لم تُحرك فيهم أي شعور، كلماته كانت شهادة حية على معاناته الشديدة، وشعوره بالعجز لن يمحوه الزمن، وفق ما نشرته “رويترز”.

الجندي بالجيش السوداني ، عبد الله عمر (الصورة من رويترز)

وفقًا لتقرير حديث صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، بلغ عدد الإجمالي للاجئين السودانيين الذين فروا إلى تشاد بسبب النزاع المستمر في السودان حتى 2 ديسمبر 2024، حوالي 719.123 شخصًا، يتمثلون في 200.010 أسرة.



 

اللاجئين في تشاد

لماذا يستهدف الدعم السريع ذكور المساليت؟

الاستهداف المتعمد للأطفال والمراهقين الذكور في قبيلة المساليت من قبل قوات الدعم السريع كجزء من حملة تطهير عرقي واسعة في دارفور، يأتي ضمن استراتيجية تهدف إلى إضعاف قدرة القبيلة على مقاومة الهجمات المستقبلية.

ويُعتقد أن هذا الاستهداف يأتي في سياق محاولة لتفكيك البنية الاجتماعية للقبيلة بشكل طويل الأمد، حيث يتم إنهاء حياة الذكور الصغار لتجنب تحولهم إلى محاربين في المستقبل يسعون للانتقام من الهجمات التي تعرضت لها قبيلتهم، وفقًا لـ"رويترز".

هناك شهادات تؤكد أن بعض الأفراد من الميليشيات المسلحة قالت إن الهدف هو القضاء على الأطفال الذكور لأنهم "سوف يكبرون ليقاتلونا" وفقًا لما ذكرته أمهات لضحايا، ويعتبر هذا استهدافًا استراتيجيًا لإزالة "الجيل القادم" من القادرين على المشاركة في المقاومة.


لماذا يستهدف الدعم السريع قبيلة المساليت؟

استهداف قوات الدعم السريع لقبيلة المساليت لم يكن وليد لحظة الصراع الحالي فقط، وفقًا لسمر إبراهيم، المتخصصة في الشأن السوداني، فالأمر ممتد منذ عقود تسيطر عليها توترات عرقية في دارفور بين القبائل ذات الأصول العربية والأفريقية.

وقبيلة المساليت، التي اشتهرت بصمودها وتاريخها الحافل بالنضال، كانت دائمًا في مرمى النزاعات، خصوصًا بسبب موقعها الجغرافي وتمتعها بالأراضي الخصبة.

ودارفور منطقة متعددة الأعراق، تضم مجموعات عربية مثل (الرزيقات والماهرية) وغير العربية مثل (المساليت والفور والزغاوة)، ويعود الصراع بين هذه المجموعات إلى قرون، لكنه تصاعد بشدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بسبب التنافس على الموارد (الأرض والمياه).

وقبيلة المساليت كغيرها من القبائل غير العربية تعتمد على الزراعة التقليدية في حين تميل القبائل العربية إلى الرعي، ما أدى إلى نزاعات متكررة بين الطرفين.

حميدتي مع عناصر من قوات الدعم السريع

يرى الدعم السريع نفسه ممثلا للمصالح العربية في دارفور، ما جعله في صراع مباشر مع القبائل غير العربية، خاصة المساليت، التي تعد من أكثر القبائل تنظيمًا واستقلالية، فخلال الصراع في دارفور في عام 2003، كانت مناطق المساليت معاقل لمتمردين من القبائل غير العربية، ما جعلها هدفًا للميليشيات المدعومة من الحكومة، بحسب “رويترز”.

إقليم غرب دارفور، حيث تتمركز قبيلة المساليت، موقعه استراتيجي على الحدود مع تشاد، ويحتوي على أراضٍ خصبة، والسيطرة على هذه المنطقة تعد هدفًا عسكريًا واقتصاديًا لقوات الدعم السريع.

بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تزايد استهداف المدنيين في دارفور، حيث تسعى قوات الدعم السريع للسيطرة على الإقليم، واستهداف الذكور يضعف من القبيلة مستقبلًا لأن هؤلاء هم من يستطيعون المحاربة.

جلست أمل تنظر في الأرض وعيناها مملوءتان بالدموع، وتتذكر قصة فرعون موسى الذي كان يقـتل ذكور بني إسرائيل خوفًا من زوال ملكه، وعرفت حينها أن هذه الأرض دائمًا ما تُبتلى بالظلم والطغيان، ولكن سرعان ما تذكرت كيف أنقذ الله موسى "عليه السلام" وأدركت رحمة الله.

search