
كيف تفتح المرأة قلبها للحب من جديد بعد أن أغلقه رحيل الأب؟
حين تفقد المرأة أباها، لا تفقد رجلاً من العائلة فحسب، بل تفقد جزءًا من تعريفها الأول للأمان. يتغير شيء ما في قلبها، وكأنها لم تعُد تطمئن بالبساطة نفسها، أو تفتح أبوابها دون حذر.
تصبح الذكريات ملاذًا، ويغدو الحب اللاحق سؤالًا صعبًا: "هل يمكن أن يأتي أحدهم ولا يُخيفني بعده؟". في هذا المقال أحاول أن أقرأ ملامح هذا الحزن الصامت، وأقترب من التحولات النفسية التي تمر بها الابنة حين تحاول أن تُحب من جديد بعد غياب الأب، بكل ما في التجربة من ارتباك، وتوق، وتوقير للذاكرة.
حين ترحل صورة الرجل الأول في حياة أي فتاة، يرحل معها شيء من التعريف الأول للحب، للأمان، للمعنى. الأب ليس مجرد فرد في العائلة، بل هو أول من نادى باسمها بصوت يحمل حنانًا خاليًا من الشروط. وحين تكون الفتاة غير متزوجة، يصبح غيابه حدثًا نفسيًا أكثر تعقيدًا من مجرد فاجعة عائلية.
ليست كل الخسارات سواء، فبعضها لا يشبه الفقد المعتاد، بل يشبه اختفاء جدار كان يسند القلب دون أن يشعر، هكذا هو رحيل الأب عند الفتاة غير المتزوجة، لا يشبه فقدان شخص عزيز فحسب، بل يشبه ضياع البوصلة التي كانت ترشدها إلى ملامح الرجولة ودرجات الأمان ومعنى الاحتواء.
فالأب في لاوعي المرأة هو النموذج الأول للرجل والملاذ الأول من تقلبات العالم، وعندما يرحل هذا النموذج دون أن تعيش هذه المرأة تجربة حب حقيقية فإنها لا تفقد رجلا فيك، بل تفقد النسخة التي كوّنت من خلالها رؤيتها للرجال، وإن لم تنتبه فإن هذه النسخة قد تتجمّد في وجدانها فتقيس بها - بوعي أو دون وعي- كل رجل يقترب منها لاحقا.
ما لا يُقال كثيرًا إن بعض النساء لا يبكين فقط رحيل والدهن، بل يبكين غياب المعيار، واختفاء البوصلة، والارتباك الذي يصيب عاطفتهن تجاه أي رجل بعده. فالصورة التي ترسخت في الذاكرة تصبح مرآة تقف أمام أي تجربة عاطفية لاحقة، تُقارن بها، وتُحاسب عبرها، بل أحيانًا تُرفض قبل أن تبدأ لأن شيئًا في داخلها يقول: "لا يشبهه... إذًا لن يكون جديرًا بي".
لكن المشكلة لا تكمن في الحنين للأب، بل في تقديس صورته حتى تتحول إلى سجن لا نافذة له. فما بين من تبحث عن نسخة مطابقة له فيمن تحب، ومن ترفض الجميع خشية ألا يرتقوا إليه، تضيع سنوات من العمر في محاولات غير عادلة للحب. فالحب لا يأتي ليكرّر أحدًا، بل ليكشف جديدًا فينا.
الرجال لا يجب أن يكونوا نسخًا من آبائنا، كما أننا لا يجب أن نكون نسخًا مما كنا عليه ونحن في كنفهم. لكل رجل بصمته، طريقته، واحتياجه، ولكل علاقة خصوصيتها التي لا تقبل المقارنات.
المرأة التي لم تتزوج بعد، وودّعت والدها، تحتاج أن تفهم أن الحزن لا يجب أن يُغلِق قلبها، بل أن ينضجه. أن يُعلّمها كيف تميز بين من يعِد ومن يفي، بين من يعطيها الأمان ومن يطلبه منها.
من الناحية النفسية، تمرّ الفتاة بعد وفاة والدها بمراحل متداخلة من الحزن والارتباك والارتباط المبالغ بصورة الأب. ففي غيابه، تتضخم الإيجابيات وتتلاشى العيوب، ويتحوّل الأب إلى "فكرة مثالية" يصعب بعدها الاقتراب العاطفي من أي رجل جديد.
تتجذر مشاعر الحنين والخوف معًا: حنين للحب الذي لا يُهدّد، وخوف من إعادة تجربة الفقد من جديد. ولهذا، كثير من النساء يضعن بينهن وبين الحب حاجزًا غير مرئي من التردد والمقارنة والقلق من التعلق، في محاولة لاواعية لحماية النفس من الخسارة.
ولكي تتجاوز هذه الأزمة، تحتاج الفتاة أن تمر بعملية "إعادة تعريف" للأب في ذاكرتها: لا كفكرة مثالية، بل كإنسان حقيقي له ما له وعليه ما عليه. حين يتحوّل الأب من رمز متضخم إلى ذكرى دافئة، يمكن عندها أن تُفتح نوافذ القلب مرة أخرى.
وتحتاج أيضًا إلى إدراك أن تجربة الحب القادمة لا تأتي لتعويض غيابه، بل لبناء مساحة جديدة مختلفة تمامًا، ناضجة، وقائمة على وعيها بذاتها لا على ظل فقدها.
أما الرجل الذي سيرتبط بامرأة فقدت والدها، فغالبًا ما يشعر بمزيج من التحدي والغموض. فقد يظن، دون وعي، أنه مطالب بـ"ملء الفراغ" الذي خلّفه الأب، أو على الأقل، أن ينافس صورته المحفورة في الذاكرة. هذا الشعور قد يولّد في داخله نوعًا من القلق، وكأن الحب مشروط بتقديم حماية تشبه الأبوة أكثر مما تشبه الشراكة.
وقد يشعر أحيانًا بأنه غير مرئي بذاته، بل يُنظر إليه من خلال مرآة شخص آخر لم يعرفه. وهنا تكون الخطوة الأهم: أن يعي أن دوره ليس أن يحل مكان الأب، بل أن يكون ذاته. وأن المرأة لا تحتاج أبًا جديدًا، بل رجلًا ناضجًا يتعامل مع هشاشتها المؤقتة بحكمة، دون أن يشعر بأنه يعيش تحت مقارنة مستمرة. فكلما كان قادرًا على منحها علاقة قائمة على النضج والصدق والتفاهم، كلما ساعدها على الخروج من عباءة الماضي، إلى ظل شراكة متزنة لا يُهددها الغياب، بل يثبّتها الحضور.
فتح الباب من جديد لا يعني نسيان منْ رحل، بل يعني أن تتعلم أن منْ يرحل لا يأخذ معه حقنا في الحب، بل يترك لنا مسؤولية أن نحيا الحياة التي تستحقها قلوبنا.

الأكثر قراءة
-
رسميا.. الرئيس السيسي يصدق على تعديل قانون الإيجار القديم
-
"لا للمماطلة".. كيف تغير قانون الإيجار التمليكي "الـ59" بالتعديلات الجديدة؟
-
جهز ورقك.. البريد يستعد لاستقبال المواطنين لحجز "سكن لكل المصريين 7"
-
قبل بدء التصويت بانتخابات الشيوخ.. اعرف مكان لجنتك بالرقم القومي
-
وسط حراسة مشددة.. وصول "علياء قمرون" إلى النيابة الاقتصادية بالقاهرة
-
بعد تصديق الرئيس عليه.. متى يتم تطبيق قانون الإيجار القديم؟
-
الانتخابات لحد الساعة كام؟.. اعرف الموعد
-
وظائف حكومية 2025.. الشروط والتقديم عبر هذا الرابط

مقالات ذات صلة
الدنجوان مان
24 يوليو 2025 11:29 ص
من الثانوية للكلية.. خطوة نحو الحلم
23 يوليو 2025 11:46 ص
فوبيا المرأة الجميلة
17 يوليو 2025 11:55 ص
جيل يتهرب من الزواج.. هل تغيّرت المرأة أم الرجل؟
10 يوليو 2025 09:30 ص
أكثر الكلمات انتشاراً