الأحد، 10 أغسطس 2025

09:45 ص

أمل منصور
A A

وجوه مشوّهة لـ امرأة قوية مستقلة متحكمة

في زحمة الدعوات المتطرفة للاستقلال، ظهرت نماذج نسائية تتبنّى القوة لا كخيار نابع من توازن داخلي، بل كرد فعلٍ غاضب على وجعٍ قديم. نساء تعلّمن أن لا يُظهرن حاجة، ولا يُفصحن عن رغبة، ولا يُفكرن في الرجل إلا كوسيلة مؤقتة لتحقيق غاية، أو كجزء من مشهد اجتماعي مطلوب، لا كشخصٍ له كينونته.

إنها لا تقع في الحب، بل في الفرصة. لا تبحث عن روح تُكملها، بل عن مصلحة تُسهّل حياتها.

تدخل العلاقات وفي ذهنها قائمة من الاحتياجات، وخطة هروب جاهزة. تقول لنفسها: "سأمنحه ما يكفي ليبقى، دون أن أفرّط بزمام القوة"، وكأن العلاقة معركة، لا ميدان تعارف وتكامل. تراه وسيلة لترقية اجتماعية، أو استقرار مادي، أو حتى توازن نفسي مؤقت، لكنها لا تراه شريكًا يمكن أن تقف بجانبه يومًا إذا تعثّر، أو تُصدّق هشاشته إن انهار.

هذا النوع من النساء لا يرفض الحب تمامًا، لكنه يخشاه. يخشى ما يحمله من ضعفٍ وفقدان سيطرة. فيُغلّف احتياجه بالسخرية، ويُخفي رغبته في الدفء خلف ابتسامة باردة ونظرة تحكُّم. يتعلّم فنون الهروب بدل فنون الاحتواء، ويُتقن رسم حدودٍ قاسية تحت اسم "الكرامة" و"الاستقلال"، وهي في حقيقتها جدران خوفٍ لا أكثر.

لكن استقلالها المشوّه لا يمنحها الأمان، بل يعزلها عن معنى المشاركة. ترفع شعار "لا أحتاج أحدًا"، لكنها تواصل البحث عن مَن يُشبع جوعها العاطفي في الخفاء. تبحث عن رجل يمنحها ما تشاء دون أن يمنحها نفسه، تعامله كوسيلة وصول، لا كشريك حياة. ثم تمضي بعد كل تجربة بفكرة أكثر تشوّهًا عن الحب: أن الرجال لا يصلحون إلا للاستغلال أو الهروب.

فتتحوّل العلاقة من احتمالٍ للتكامل إلى ساحة مساومة خفية: ماذا سآخذ مقابل أن أمنحك القليل من وقتي؟ كم من الكلمات الدافئة سأمنحك مقابل أن تُرضي نرجسيتي؟ لا حب في ذلك، بل عقد شراكة غير معلن، تحكمه لغة المنفعة لا لغة القلوب.

إنها لا تطلب حبًا، بل تطلب تسهيلات عاطفية. لا تراه شريكًا يمشي معها الدرب، بل سلّمًا تتسلّقه، أو مظلّة تظلّ بها نقصها. فإن خذلها، رمته بلا تردد.

وحين تقع في الحب حقًا، إن وقعَت، لا تقدر على الاستمرار. لأنها لم تتعلّم أن تُعطي دون مكاسب. لم تتدرّب يومًا على أن تنتظر، أو تُسامح، أو تتحمّل التقلّبات البشرية. هي لم ترَ في الرجل سوى وسيلة، فكيف تتحمّل هشاشته؟ كيف تتقبّل ضعفه؟ كيف تتفهّمه كإنسان، لا كخدمة؟

هذه المرأة في جوهرها شخصية دفاعية، لا هجومية. كل صلابتها ردّ فعل على كسرٍ لم تُرمّم شروخه بعد، وكل محاولات تحكُّمها ليست سوى رغبة محمومة في ألا تُؤذى مجددًا.
إنها تخشى أن تكون صغيرة في عيني رجل، فتصبح أكبر من كل الرجال، تتسلّح بالبرود حين تشتهي الدفء، وتُغالي في الاستغناء .
إنها باختصار، قلبٌ مُشوَّه بذكريات لم تُغفر، ونفسٌ تُقاتل العالم كي لا تسقط أمام عاطفة واحدة.

وحين تتحوّل المرأة من كائن يبحث عن الحب إلى كائن لا يرى في الرجل سوى "وسيلة عبور"... عبور نحو مكانة، أو وضع اجتماعي، أو شعور بالانتصار، أو حتى مجرد تأكيد داخلي بأنها مرغوبة ومطلوبة — تفقد العلاقة معناها، ويُفرَّغ الحب من جوهره، لتصبح العلاقة صفقة مقنّعة بعاطفة مصطنعة.

إن الاستقلال الحقيقي لا يعني أن "نستخدم الآخر" لنثبت أننا لسنا بحاجة إليه، بل أن نعي احتياجاتنا بصدق، ونملك شجاعة الاعتراف بها دون خجل أو إنكار.
أما حين تتحوّل العلاقة إلى معادلة تنتهي فيها قيمة الرجل عند حدود "ما يقدمه"، يصبح هو الآخر مستهلكًا، وتصبح هي انعكاسًا مشوّهًا لصورة القوة.

قد تبدأ هذه العلاقة بإعجاب أو انجذاب، لكنها ما تلبث أن تُسحب تدريجيًا إلى ساحة حسابات دقيقة: ماذا سأكسب منه؟ ما مدى فائدته في حياتي؟ وهل يمكن استبداله بآخر يوفر أكثر؟
وهنا لا يعود القلب مشاركًا، بل يتحوّل إلى آلة تفاضل وتقييم.

المرأة التي تتعامل مع الرجل كوسيلة، لا كرفيق، تفقد تدريجيًا قدرتها على أن تُحب وتُحب. لأن الحب لا يُولد في مناخ الشروط، ولا يزدهر في قلب مشغول بالمفاضلة.
إنها تُقحم ذاتها في علاقات لا تنوي أن تسكنها، بل أن تمر عبرها... تمر، ثم تغادر، دون أن تترك أثرًا سوى خيبة متبادلة.

وحين تسأل نفسها لاحقًا: "لماذا لا يدوم شيء؟ لماذا لا أُحب كما أريد؟"
لن تجرؤ على الاعتراف بأن ما كانت تمنحه لم يكن حبًا، بل "فرصة استثمارية" لا أكثر.
وبالتالي، لن تُقابل بالحب، بل بالحيطة… أو بالمثل.

تلك الصورة الجديدة التي تتبناها بعض النساء تحت شعار “أنا لا أحتاج إلى أحد”، ليست قوة، بل قناع هش يخفي هشاشة أعمق: خوف من الاعتماد، من التورط، من الخسارة... من الحب.
لكن الأمان لا يتحقق بعزل الآخر عن معادلتنا، بل باختيار من نكون معه شركاء لا مستغلين.

لم تعد الصورة النمطية للمرأة الضعيفة التي تنتظر الإنقاذ تجد من يُحب الدفاع عنها.
لقد تبدّل الزمن، وتقدّمت المرأة، وتغيّرت مفاهيم كثيرة.
لكن في هذا التبدّل... تسرّب شيء خفي، مشوَّه في مظهره، يُخفي قناع القوة: امرأة لا ترى الرجل شريكًا... بل وسيلة.

وسيلة لتثبيت نجاحها الاجتماعي.
وسيلة للعبور إلى أمومة تُنجب فيها لنفسها، لا لعلاقة عميقة تربطها بوالد أبنائها.
وسيلة لتحصيل استقرار مادي، أو دعم معنوي، أو حتى مجرد وسيلة لإثبات أنها "مطلوبة"... لكنها لا تراه شريكًا في الروح، ولا نصيفًا في الطريق.

تُدير العلاقة بحسابات باردة، دون انخراط وجداني حقيقي.
تمنحه مساحة دور معلّب… وتبقي قلبها في وضع "التحكم عن بُعد".
تمنع نفسها من التورط، وتُقنع نفسها أنها تحبه، بينما كل تصرف يصدر عنها يقول: "أنا لا أراك إلا ضمن حدود ما أحتاجه الآن".

هي ليست سيئة، لكنها مجروحة من تجارب أو أفكار.
اعتادت أن تستقل حتى أصبحت لا ترى في الرجل إلا محطة، أو ورقة تُكمل بها ملفًا شخصيًا.
وقد تُجيد التعبير، تُتقن الحضور، وتُظهر الحنان، لكنها لا تُشارك المسافة… بل تُديرها.

في هذا النمط من العلاقات، يشعر الرجل – حتى لو لم يُفصح – أنه مُهمَل معنويًا.
أنه يُؤدى به دور مطلوب، لكن أحدًا لا ينتظر منه أن يكون "هو".
هو مطلوب بصفته، لا بشخصه.
بحضوره الخارجي، لا بحقيقته الداخلية.

وحين يتحدث عن حاجته لأن يُحب، يُقدَّر، يُحتضن كـ"إنسان"...
قد يُجابَه بجملة باردة: "أنت رجل… ولست بحاجة لذلك!"
وكأن الحب صار حكرًا على المرأة، والمشاعر ترفًا لا يليق بالرجال.

وهكذا… تُبنى علاقات ناجحة على الورق، فارغة في القلب.
ويعيش كل طرف دورًا يُتقنه… دون أن يعي أن الحب لا يُقاس بنجاح العلاقة، بل بصدق ما فيها.

أما الرجل الذي يقبل بهذا النمط من العلاقة، فهو غالبًا رجل لم يُشفَ تمامًا من احتياجه للإعجاب، أو لرغبة إثبات ذاته أمام امرأة تبدو "عصية".
قد ينجذب لبريقها البارد، أو لما تُمثله من تحدٍّ.
وربما يظن في البداية أنه قادر على ترويضها، أو على إيقاظ قلبها من مواته العاطفي.
لكنه بمرور الوقت، يجد نفسه في علاقة يُشبه فيها  المطلوب عند الحاجة فقط، والغائب بلا مساءلة متى انتهى الدور.
بعضهم يرضى بهذا الظل لأنه لا يريد مسؤولية القرب، والبعض الآخر ينكسر بصمتٍ ويرحل، وقد خلّف وراءه خيبةً جديدة في سجلها الطويل.

وما بين صوت العقل الذي يُبرّر هذه الفلسفة، وصوت القلب الذي يتوق لأن يُصغي له أحد، تعيش هذه المرأة صراعًا صامتًا، لا يُنقذها منه سوى لحظة صدق، تُسقِط فيها القناع، وتقول لنفسها:
لستُ قوية كما أبدو، ولا مستقلة كما أدّعي.
أنا فقط خائفة... من أن أُحب وأُكسَر من جديد.

search