البؤساء.. رؤية فلسفية تتجاوز الزمن

في ملحمة البؤساء لـ فيكتور هوجو، نجد رؤية فلسفية تتجاوز الزمن. نشأة هوجو في بيزنسون، بين والده الجنرال ووالدته الملكية، خلقت تناقضات فكرية أثرت على فلسفته. ورغم مرور الزمن، تظل رؤية هوجو الفلسفية تتجاوز تفسيرات عصرنا، وتجعلنا نرى العالم من منظور جديد.

يبدو أن هوجو يتجاوز مفهوم العدالة الاجتماعية المادية، ليكشف عن أبعاد أعمق في الصراع الإنساني، فهوجو كاتب فلسفي يفتح آفاقًا جديدة في الفكر الإنساني، من خلال مدرسته الفلسفية التي تجسد صراع المعاني.

إن مدرسة هوجو هي انعكاس للصراع الأزلي بين المعاني والوجود، بين الإنسان والكون، بين الحقيقة والوهم. في هذا السياق، نرى أن هوجو لا يكتب عن العدالة الاجتماعية فقط، بل عن الحياة نفسها، وعن الصراع الأبدي للإنسان في سبيل فهم ذاته ووجوده.

وفلسفة الحياة ليس في صراعها بين الخير والشر فلا صراع بين مُطلقين فالشر بين والخير بين والأمر كله متروك للاختيار ولكن الصراع الحقيقي هو بين خيرين وشرّين، هذا ما يجسده هوجو في البؤساء.

صراع المعاني جوهر فلسفة هوجو

فصراع جان فالجان بطل الرواية ليس مع مفتش الشرطة جافيير وصراع المفتش ليس مع المجرم السابق، واهتمام فالجان بالطفلة كوزيت ليس خوفا عليها من المجتمع في الأساس ولكنه موجود فهم يشكلون ثالوثًا معقدًا من الصراع الداخلي والخارجي.
جان فالجان ليس مجرمًا بطبعه، بل حُكم عليه بالسجن لسرقة رغيف خبز، وهو فعل يائس من أجل البقاء، التحولات التي طرأت على شخصيته داخل السجن كانت نتيجة للضغوط والظلم، وليست تحولات جوهرية، إنها آليات دفاعية نفسية تحركها غريزة البقاء، في محاولة للتعايش مع الظلم والضغوط.

ورغم أن فعله كان مذنبًا، إلا أن الحكم كان قاسيًا بشكل غير متناسب، وهذا هو التجسيد الأول للصراع، الصراع بين النفس الواقعة تحت ضغط شديد لابد لها من البقاء، ولا بقاء إلا بالتصرف بطريقة قد تُعد مذنبة في ظل الظروف العادية، ولكنها تصبح ضرورة حتمية في ظل الضغوط الشديدة.

والجوع ليس مبررًا للسرقة، ولكنه يصبح أحد العوامل التي تؤثر على القرارات في ظل معطيات الوقت والمكان، لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، في ظل الظروف التي أحاطت بجان فالجان.

تأزم صراع فان فالجان عندما علم بوجود آخرين يحاكمون باسمه، مما أثار في نفسه صراعًا بين الراحة والضمير، ومن الطبيعي أن يشعر بالارتياح لهذا الخبر، الذي يبدو وكأنه مخرجًا من مطاردة جافيير، إلا أنّ ضميره لم يسمح له بالاستمتاع بهذه الحياة، بينما يتحمل آخرون العذاب بدلاً منه.

البؤس الحقيقى

وعلى امتداد الرواية، نشهد صراعًا مستمرًا بين فالجان وجافيير، لا يعدو كونه صراعًا بين القانون والجريمة بل بين العدالة والرحمة، فسرقة رغيف خبز في زمن المجاعة والخراب الاقتصادي والاضطرابات السياسية، لا تستحق العقوبة القاسية التي تعرض لها، كان لابد من قانون أكثر رحمة ينظر لمثل هذه الحالات.

قرر فالجان التنازل عن عرش استقراره والحياة التي اختارها بكفاحه، وفق معطيات الحياة له، والتي منحها له شارل ميريل أسقف مدينة ديني الرحيم، وحين قرر فالجان الهروب مرة ثالثة، كانت حفاظًا على وعده لفانتين، السيدة التي ضلت طريقها في الحياة تحت ضغط الظروف الاقتصادية والاجتماعية، في أن يعيد لها ابنتها كوزيت مرة أخرى ورعايتها. 

ففرار فالجان هنا ليس من القضاء ولكن من قدر محتم سوف يحل بكوزيت التي لا تملك من أمرها رشدا فهي طفلة لأم ضلت طريقها سعيا وراء لقمة العيش حتى قضى المرض عليها، الفرار هنا لحماية كوزيت من مصيره الذي لازال يدفع ثمنه ومن مصير فانتين القاتم، فكل ما يبحث عنه فالجان هو الرحمة، يرغب في قانون رحيم ومجتمع رحيم وظروف رحيمة.

يجري جافيير في السباق المحموم، مجبرًا على مواجهة قانونه الخاص، الذي يغذيه الغرور والانتقام، يسعى جافيير للانتقام لكرامته المجروحة، ولتعزيز إيمانه بالقانون، الذي يراه معادلة هشة بين الغرور والرحمة.

في عقلية جافيير، يتعارض القانون مع الرحمة، كأنهما قطبان متنافران لا يمكن التوفيق بينهما، القانون في نظر جافيير، هو كيان لا يشبع، يلتهم المجرمين والمخطئين، دون أن يروي ظمأه للعدالة، وفي لحظة إطلاق سراح فالجان، تبرز الرحمة كقوة جبارة، ترفع الظلم عن كاهله، وتعيد له إنسانيته.

يدرك جافيير، في لحظة فارقة، أن قرار الرحمة هو الأصعب، وأن تنفيذ القانون قد يكون عقوبة على نفسه، قبل أن يكون عقوبة على المذنب.

صراع القانون والرحمة 

كان صراع جافيير محصورًا بين قطبي القانون والرحمة، حيث يتصارع العدل المطلق مع الرحمة الواجبة للمخطئ، بين العدالة المطلقة والرحمة التي تأخذ في الاعتبار الظروف القاهرة للمخطئ، بينما كان صراع فالجان يتركز حول قسوة النصوص والمجتمع، وابتغائه رحمة القانون، ورحمة المجتمع التي تقبل بالعفو عن المخطئ، لا المجرم.
سعى فالجان إلى رحمة المجتمع لامرأة وحيدة، لم يبق لها سوى ذكرى والدتها الراحلة، والتي تُعدّ رمزًا للضعف والهشاشة في هذا السياق، يتحول الصراع من صراع وقتي إلى صراع أبدي، يهدف إلى تجاوز ما عاناه فالجان وفانتين من ظلم وقسوة.

لا يمكننا تجاهل فلسفة فيكتور هوجو في الرواية والحياة، والاكتفاء بالقراءة السطحية للصراع بين الخير والشر. فهذا الصراع ليس كما نتصوره، بل هو معركة اختيار بين مختلفين. الصراع الحقيقي هو بين متشابهين. القانون يمكن أن يكون رحمة ظاهرة للمجتمع، لكنه قد يتحول إلى ظلم باطن.
“الرحمة هي الملاذ الأخير للمجتمع، سواء كان يحكمه القانون أو الفوضى”.

وفي النهاية، رحمة تطبيق القانون لا تكون سوى بقانون أكثر دقة ودراسة لظروف المتهم أو المخطئ فهو ليس بمجرم أصيل ولكنه مخطئ تحت ظرف لم يقدر على تحمله، فلا مجال للعفو عنه ولا مجال لحسابه كما يحاسب المجرمين وقطاع الطرق .

البؤس الذى يتحدث عنه هوجو ليس بؤس المعيشة أو بؤس الفرار من المجتمع ولكنه بؤس عدم الاختيار الصحيح... بؤس دفع الثمن.... بؤس عدم الرحمة فكلاهما كان بائسا.... الحكومة بائسة متمثلة في جافيير لأنه يسعى للكمال ويرى أن الرحمة ضد الكمال، ولكن في الحقيقة وصولك للكمال لابد وأن يكون مروراً بطريق الرحمة، وفالجان بائس لأنه يرغب في الرحمة كما كان رحيماً بكل المدينة وقتما كان العمدة ووقتما كان مواطنا أقدم على تنفيذ الرحمة على أهل الحي حتى يصل للكمال وكانت كوزيت بالنسبة له محاولته لإحلال الرحمة بالمجتمع بتجنيبها مآسي حقيقة نشأتها وحقيقة والدتها التي ظلمها المجتمع والتي سيظلم كوزيت في المستقبل إذا تسربت لهم الحقيقة عنها.

وكما كان صراع جان فالجان وجافيير انعكاسًا للتوتر بين القانون الجامد والرحمة الحيّة، يواجه مجتمعنا العربي اليوم تحديات مشابهة في زمن الواقع الافتراضى؛ حيث تقف الأنظمة والقوانين أمام قرارات تقنية قادرة على التأثير في مصائر البشر، لكنها تفتقر أحيانًا لروح الرحمة والإنصاف.
الخوف المعاصر لا يأتي فقط من تفوق الخوارزميات، بل من إمكانية ترسيخ ظلم مؤتمت يفتقر للمرونة الإنسانية، وهنا تتجلى دعوة هوجو القديمة، في ثوب جديد: لا عدالة بلا رحمة، ولا تقنية بلا ضمير..