الثلاثاء، 19 أغسطس 2025

08:06 م

سعيد محمود
A A

فيديو هدير عبد الرازق ولعنة الترافيك

لم يمر سوى ساعات قليلة على تسريب مقطع جديد منسوب للبلوجر هدير عبد الرازق، حتى أصبح اسمها يتصدر محركات البحث وصفحات السوشيال ميديا، كما حدث في المرات السابقة، وكأن لسان حال محركات البحث يقول بصوت سعيد صالح: "طبق الأصل العلقة اللي فاتت".

عشرات الآلاف بحثوا عن فيديو هدير عبد الرازق، بعضهم بدافع الفضول، وآخرون تحت شعار "عايز أعرف إيه اللي حصل"، لكن إذا جردنا الأمر من أبعاده الأخلاقية والقانونية، سنجد أن القصة الأعمق هنا ليست عن "الفيديو" في ذاته، بل عن لعنة اسمها "الترافيك" باتت تحكم الإعلام الجديد، وتحوّل حتى المآسي والفضائح إلى سباق للمشاهدات واللايكات والشير.

للأسف منذ أن حل "الترافيك" ضيفا على عالم الصحافة، والبعض من أهل المهنة يمسحون بلاط صاحبة الجلالة مسحا بالمهنية والإنسانية، وهم في ذلك أشبه بشخصية ميمي شكيب في فيلم "30 يوم في السجن"، حين كانت تردد جملتها الشهيرة مع أبو بكر عزت عندما ترى ما لا يعجبها لكنها تطمع في أن يدر دخلا كبيرا، فتقول والجشع يطل من عينيها "وماله يا مدحت ما دام هيزود الإيراد".

والإيراد هنا بالنسبة لهؤلاء هو عدد المشاهدات التي يحصدها الخبر أو الموضوع على مواقعهم الإلكترونية، فباتوا يحاسبون محرريهم بالمشاهدات لا بالانفرادات، وبالنقرات لا بالمهنية في الموضوعات، وهو ما جعل مرؤوسيهم بالتبعية يبحثون عن كل ما هو "حراق" اتقاء لشر الكلام، وحفاظا على الفتات الذين يتحصلون عليه لفتح بيوتهم.

هذا الهوس بالترافيك واستغلال البحث عن فيديو هدير عبد الرازق ذكرني بفيلم شاهدته منذ سنوات، وخرجت منه بدرس هام جدا عن شغف "الترافيك" الذي اجتاح أغلب صناع الإعلام في العالم، إنه فيلم The Condemned الذي عرض في 2007، بطولة نجم المصارعة الحرة الشهير ستيف أوستن، وهو يبدو مجرد فيلم أكشن عابر، لكنه في الحقيقة يقدم درسا بليغا عن شغف المشاهدة وكيف تحكم الأرقام والزيارات عقل صانع المحتوى أيا كان.
 

تدور قصة الفيلم عن مخرج سادي جشع، قرر إنتاج أحد برامج تليفزيون الواقع لكن بشكل مختلف جدا، على أن يقدمه عبر الإنترنت فقط، وفي سبيل ذلك يستخدم الرشاوى ليتمكن من دخول أعتى سجون العالم وجمع عشرة من أخطر المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، ثم يلقيهم في جزيرة بعد أن يخبرهم بقواعد اللعبة، وهي القتال حتى الموت في سبيل الحصول على الحرية، وكي يضمن عدم هروبهم قام بوضع القيود الإلكترونية في قدم كل واحد منهم، محذرا إياهم من وجود قنابل شديدة الانفجار في قيودهم سيقتلهم بها إن حاولوا الهرب. 

نرى خلال مشاهد الفيلم أن المخرج الموتور قام بذلك ليقينه التام بحتمية نجاح مثل هذه النوع من البرامج، وأنه سيحقق أعلى المشاهدات على الإنترنت، وسيعود عليه بالمليارات، وهذا ما دفعه لجمع المجرمين من جميع أنحاء العالم، لضمان الانتشار الواسع، لكنه يواجه مشكلة في العثور على مجرم عربي حتى يضمن دخول أكبر قدر من العرب على موقع البرنامج، قبل أن يغير رأيه عندما يرى سجينا أمريكيا مميزا، فيقرر استغلال حالة الكره الموجودة في العالم للأمريكان ويستعين بذلك السجين، معللا الأمر بأن كل من يكره أمريكا سيدخل على موقع برنامجه لمجرد أن يشاهد السجين الأمريكي وهو يموت. 

نأتي هنا للخطوة الأكبر، وهي ضمان تحقيق نسبة المشاهدة العالية، لذلك قام المخرج بعمل إعلانات لبرنامجه على كل مواقع الألعاب والمواقع الإباحية، وأي موقع يدخله عدد كبير من المستخدمين "طريقة النعناع في الأتوبيسات"، وبالفعل تحقق له ما أراد، ومع أول معركة شرسة على الجزيرة يحقق موقع البرنامج 5 ملايين مشاهدة في الدقائق الأولى، ولكم أن تتخيلوا أن في نهاية اليوم وصل عدد الزيارات إلى 40 مليون. 

نكتشف مع سير الأحداث أن السجين الأمريكي كان من عناصر القوات الخاصة في الماضي، وهو الوحيد الذي يرفض تلك الحرب القذرة على الجزيرة، ويخوض معركة قوية ضد المجرم الذي قتل أغلب المتنافسين، وبالطبع ينتصر عليه في النهاية. 

فيلم the condemned

القصة هنا ليست قصة الأمريكي البطل، فالمخرج وفريق عمله أيضا من الأمريكان، إنما الرسالة الأهم والأخطر تتلخص في الحوار الذي يظهر في آخر الفيلم على لسان المخرج، في تسجيل أجرته معه مذيعة تلفزيونية قبل بث برنامجه، وهذا ما جاء فيه.. 

المذيعة: الأطفال حول العالم من الممكن أن يدخلوا بسهولة على موقعك ويشاهدون جريمة قتل على الهواء مباشرة. 

المخرج: طالما أنهم يملكون "كريديت كارد" من حقهم أن يفعلوا ما يحلو لهم.. ثم إن هذه مسؤولية الأهل، عليهم أن يراقبوا ما يشاهده أولادهم. 

المذيعة: لكن هذا ضد القانون.. يجب أن تتحمل مسؤولية هذا الكلام.

المخرج: أنا لم أجبر أحد على مشاهدة ما أقدمه.. الناس تحب رؤية مشاهد العنف وأنا قدمت لهم ما أحبوه. 

وتختم المذيعة حديثها قائلة: عندما أجريت تلك المقابلة كنت غاضبة من شخص واحد وهو ذلك المخرج.. لكن بعد 24 ساعة عندما وجدت ملايين المشاهدات على الموقع الإلكتروني الذي بث تلك الكارثة ليساعدوه على النجاح لم أعد غاضبة.. بل حزينة جدا.. نحن من نشاهد هؤلاء ونعطيهم المكافأة على جرائمهم.. يجب أن ندان على ذلك بشدة. 

هذه خلاصة الفكرة، أو كما يقول البعض "الزتونة من وراء الفيلم"، الإعلام في العالم كله يسير على هذا المنهج إلا النذر اليسير منه، الكل يبحث عن أكثر الأشياء الجاذبة للمشاهدات و"الترافيك"، ثم الـ"لايك" وتابعه "شير"، ولا يهم في سبيل ذلك الاستهانة بالقيم والمبادئ والدين. 

لكن.. كما قالت المذيعة في نهاية الفيلم "نحن من نشاهد هؤلاء ونعطيهم المكافأة على جرائمهم"، حقا.. نحن السبب في هذا كله، فمن الذي يشاهد ويقوم بتفضيل المعروض بـ"لايك"، ثم يساهم في نشره بـ"شير"، متسببا في صنع نجاحات لأناس لا يراعون أي شيء عند تقديم عملهم؟ 

قبل أن تلوموا الإعلام لوموا أنفسكم يا سادة، فلو كان المخرج المجنون في الفيلم يعلم يقينا أن الناس لن تلتفت لما سيقدمه، ما كان أقدم على مثل هذا البرنامج، بل ما كان فكر فيه من الأساس.

search