الإثنين، 01 سبتمبر 2025

05:45 ص

سامح مبروك
A A

بروتوكول حَنبَعَل | خارج حدود الأدب

"لقد جئتُ لا لِشَنِّ حربٍ ضدَّ الإيطاليين، ولكن لِمُساعَدة الإيطاليين ضدَّ رُوما". 

وردت هذه المقولة التاريخية على لسان "حَنبَعَل"، كما صاغها الكاتب والمؤرِّخ الأمريكي هارولد لامب في كتابه "حنبعل: رجل واحد ضد رُوما"، وأوردها في سياق خطاب حَنبَعَل لأَسرَاه من الجنود الإيطاليين بعد نصره المؤزَّر في معركة "تَراسيمين" عام 217 ق.م.

وكان "حَنبَعَل بَرقة" أحد أبرز القادة العسكريين في تاريخ إمبراطورية قَرطاج، التي هي تُونس الحالية، وقد كان حَنبَعَل من عائلة عسكرية بارزة، حيث سبقه أبوه "هامِلكار بَرقة" في قيادة الجيوش في إسبانيا، نعم يا عزيزي، كما قرأتَ تمامًا، فقد كان نُفوذ إمبراطورية قَرطاج يمتدّ من شمال أفريقيا (تونس وليبيا والجزائر والمغرب) جنوب البحر المتوسِّط، إلى إسبانيا في شماله، إضافةً إلى بعض الجزر في وسط وغرب المتوسِّط مثل صِقِلّية وسَردينيا وكورسيكا.

وكانت قَرطاج العدوَّ الأوَّل للإمبراطورية الرومانية الصاعدة في ذلك الوقت، ونتكلم هنا عن القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، حيث كانت الإمبراطورية الهِلينستية تتفكك إلى دُوَل صغيرة بعد وفاة الإسكندر الأكبر، ويتصاعد نُفوذ قَرطاج على البحر المتوسِّط شمالًا وجنوبًا، فيما حاولت رُوما فرض سيطرتها في إسبانيا، وكبح جماح التمدُّد القَرطاجي على يد قادته العسكريين الأكفاء.

ويُعَدّ حَنبَعَل أبرز أعداء رُوما عبر التاريخ، حيث تولّى قيادة الجيش في جنوب إسبانيا، وسرعان ما توغَّل بجيشه حتى حدود إيطاليا الشمالية، وعَبَر جبال الألب، وتوالت انتصاراته حتى وصل بجيشه، الذي كان تعداده حوالي 30,000 مقاتل، وسط إيطاليا عند بحيرة تَراسيمين، وكان الجيش الروماني بتعداد يصل إلى حوالي 32,000 مقاتل يُلاحِقون جيش حَنبَعَل لِمَنعه من التقدُّم جنوبًا، وعند تلك البحيرة، التي كانت تُقابِلها بعض التلال والغابات على جانبي الطريق، نَصَب حَنبَعَل واحدًا من أعظم الكمائن العسكرية عبر التاريخ.

فترك طلائع جيشه ظاهرةً كنقاط ضَعفٍ على بداية الطريق بين الغابات، بينما أَخفى الفرسان وأشدَّ المقاتلين في الغابات وبالتلال، وعند صباح 24 يونيو 217 ق.م، والضباب الكثيف يُغطِّي المنطقة، دخل الجيش الروماني الممرّ دون استطلاع جيّد عبر الغابات، إلى أن أصبح الجيش كله طابورًا ضعيفًا ممتدًّا عبر الممرّ، وصار فريسةً سهلةً بين العوائق الطبيعية: البحيرة والمرتفعات والغابات، فانقضّ جيش حَنبَعَل على الرومانيين، وفي بضع ساعات أَعمَل فيهم القتل، حتى وصل عدد القتلى إلى حوالي 16,000 جندي، وأُسر حوالي 10,000 آخرين، بينما تمكن نحو 6,000 جندي روماني من الفرار، إلا أن قوات حَنبَعَل تمكَّنت من أَسرهم فيما بعد، ليقف حَنبَعَل ويُلقي فيهم كلمته الشهيرة في افتتاحية المقال، بعد واحد من أهم الكمائن العسكرية في التاريخ.

وواصل نجم حَنبَعَل في البُزوغ، وواصل بدوره التقدُّم بجيشه إلى جنوب إيطاليا، حيث وصل ضفاف نهر أولويس عند قرية كاناي، في 2 أغسطس عام 216 ق.م. وكانت رُوما تُحضّر للمواجهة الكبرى والحاسمة، في محاولة للقضاء التام على خطر حَنبَعَل الذي كان يُهدِّد بتدمير رُوما، فجمع قادة رُوما جيشًا يصل قِوامه قرابة 90,000 مقاتل وفارس، وعلى رأسه أهم قُناصِل رُوما، بينما كان جيش حَنبَعَل في ذلك الوقت لا يتخطى 50,000 فارسٍ ومقاتل.

وفي ذلك اليوم، تجلَّت عبقرية حَنبَعَل العسكرية، حينما جعل جنوده يَصُفّون بشكل قوسٍ مُقعَّر، بطنه أقرب لصفوف الجيش الروماني بينما يتأخر جانباه إلى الخلف، ووضع في مقدمة الجيش أضعف كتائبه كطُعم للجيش الروماني.

وبالفعل، اندفع الجيش الروماني بكل عنف نحو الوسط، الذي كانت تعليماته أن يتراجع سريعًا ويستدرج فرسان ومقاتلي الرومان نحو وسط ساحة المعركة، بينما تلتف ميمنة وميسرة جيش حَنبَعَل حول الرومان لتطويقهم. فوقعوا في أكبر فَخٍّ حربي في ذلك الوقت. وسجَّل التاريخ معركة كاناي كواحدة من أكبر المجازر الحربية، حيث وصل عدد القتلى إلى نحو 70,000 قتيل، من بينهم عدد كبير من القادة، إضافةً إلى أَسرى وصل عددهم حوالي 8,000 أسير، في الخسارة الأكثر فداحةً وإذلالًا للرومان عبر التاريخ.

وفي خطوة غير مسبوقة في التاريخ، أمر حَنبَعَل جنوده بجمع الخواتم التي كان يرتديها القادة في الجيش الروماني آنذاك، من جُثث القتلى التي بلغ عددها الآلاف، وجمعها في أقفاص وأرسل بها لمجلس الحُكم في قَرطاج، فَخرًا وزهوًا بنصره الكاسح.

وكرَّست تلك الانتصارات والمعارك حَنبَعَل كواحد من ألدّ أعداء الإمبراطورية الرومانية، وجعلته هدفًا شخصيًا لها، وكما هي ضربات القلب في صعودٍ وهبوطٍ دائم، كذلك الأمم عبر التاريخ، وما كان لِقَرطاج أن ترتفع وتنتصر إلا أن تَنهزم وتَتداعى بعد حين، ولم يتسنَّ ذلك للرومان في أوروبا، وفي مواجهة حَنبَعَل على أرضهم، وإنما بمباغتة قَرنطاج ذاتها ومن داخل أفريقيا، وطلبت قيادة قَرطاج الدعم السريع من حَنبَعَل، إلا أن الهزيمة كانت أسبق من عودته، وأصبح بعدها حَنبَعَل أهمَّ المُطارَدين من الدولة الرومانية.

لم يَعُد بإمكانه البقاء في قَرطاج، فهرب إلى ممالك الشرق المتوسِّط لتجنّب تسليمه لرُوما، حيث استقرّ أوّلًا في سوريا عند الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث، وظلّ يُخطِّط لمعارك ضدَّ رُوما من بعيد، وكانت آخر فصول حياته حينما كان هاربًا لدى ملك بيثينيا (تركيا الحالية)، بينما كانت القوات الرومانية تُحاصِر القصر وتطلب من الملك تسليمه، فقال حَنبَعَل مقولته الشهيرة: "دعونا نُنقذ رُوما من قلقهم الطويل، ولنَختصر انتظارهم المملّ لرجلٍ عجوز"، وتجرَّع جرعةَ سُمٍّ كان يحتفظ بها دومًا في خاتمه، مُفضِّلًا الموت على أن يقع في أَسْر أعدائه.

ظلّ حَنبَعَل رمزًا للعبقرية العسكرية والإخلاص والقيادة، وظلّت وفاته رمزًا لشرف القائد الذي ضحّى بحياته رفضًا لذُلّ الأسر.

وبعد أكثر من ألفَي عام على موت هذا القائد التونسي العظيم، يُزَجّ باسمه في واحدة من العمليات التي لا تنطوي سوى على الخِسَّة والجُبن والحقارة، حينما يُطلِق واحد من أكثر الجيوش إجرامًا وخِسَّة في العالم اسم حَنبَعَل على بروتوكول حقير، وهو قتل جنوده وتصفيتهم بأنفسهم لِمَنع وقوعهم في الأسر، كان قرار حَنبَعَل بقتل نفسه في ذلك الوقت قرارًا شخصيًا، نابعًا من عقيدة وشرف المقاتل الذي يأبى الذلّ، أمّا الحالة المذكورة فما هي إلا عمليات إعدام خَسيسة، تتماشى مع العقيدة الفاسدة لذلك الجيش المجرم، الذي لا يتورّع عن حصار وتجويع وقصف وقتل الرُّضَّع والأطفال والنساء والعجزة، فكيف لهم بعد هذا الجُرم أن يُطلِقوا اسم قائد عظيم كحَنبَعَل على أحد بروتوكولاتهم الإجرامية الحقيرة، وحَنبَعَل وقَرطاج وتونس والبشرية السوية كلّها منهم براء.

سيبقى حَنبَعَل، وتبقى سيرته العظيمة آلاف السنين القادمة، وسينقطع دابر القوم المجرمين مهما زاد نَفيرهم ونفوذهم، ومهما بلغت قواهم وتدنّت أفعالهم "خارج حدود الأدب".

search