الأحد، 14 سبتمبر 2025

03:42 ص

د. نزر الشيخ
A A

ما قبل الميلاد

على امتداد حضاري يقدر بـ ٧٠٠٠ سنة، كانت مصر هي شعاع العلوم والحياة والإدارة والإبداع، كان المصريون القدماء خير خلفاء في الأرض، فالخلافة منهجية حياة وليست مكانة نتبوأها، فسيدنا آدم ليس هو الخليفة الوحيد لله عز وجل، ولكن كلنا خلفاء، وكلنا مؤتمنون على هذه الحياة وهذه الأرض.

فلسفة الخلافة قائمة على الاستمرارية، قائمة على توريث ما هو موجود لمن يقدر على الحفاظ عليه وتنميته وتطويره، فإذا ما ترك رجل شركة ذات شأن تعمل وتكبر لابنه، فكان نعم العون ونعم المطور ونعم الخليفة، فهو ليس وريثا فقط، فالورث إذا ما قمت عليه جيدا لتحفظه وتزيده أصبحت خليفة وإذا أنفقته وقضيت عليه كنت وريثا فقط.
قدماء المصريين كانوا روادا في العلوم والإدارة والزراعة والهندسة والمعمار والفلك والكتابة والطب. فالحضارة المصرية القديمة كانت واحدة من أقدم وأعظم الحضارات في التاريخ، ليس بالكلام ولكن بالإنجازات، وكان لدى أبنائهم الغيرة الكافية على هذه الإنجازات والعلوم للحفاظ عليها وزيادتها وتطويرها وتصدير هذه العلوم للخارج.
فتخيل معي عزيزي القارئ إذا لم يكن لدى الأجيال المتعاقبة على الحضارة المصرية قبل الميلاد، الغيرة والحمية القوية للحفاظ على الهوية والعلوم، ماذا كان الحال اليوم؟ لم تكن أسرار هذه العلوم لتصل إلينا وما كنا لنتباهى بهذا الإرث العظيم! وهذا الإرث مكون من شقين هامين جدا، هما العمل المراد توريثه ووجود خليفة عليه، وهذه هي فلسفة الخلافة.... وجود شيء أو أشياء يستخلف عليه شخص أو أشخاص.
بعد الميلاد...!

ولكن.... حدث ما يعكر صفو التاريخ وما تسبب في إصابة الورث بالضمور، وهو تفريط المورث في ورثه، فلا يوجد خليفة ولا ما يستخلف عليه، هاجرت العلوم والأسرار، بل هاجرت القيم والمبادئ الأساسية المؤسسة للحضارة المصرية القديمة، وأصبحنا نبحث عنها في الخارج بعد إعادة تدويرها ووضع علامة الماركة العالمية عليها، أصبحنا نبحث عن أنفسنا داخل البراند.

فهل ما يتركه المورث لوريثه هي الأموال؟! لكي يقوى على شراء البرندات واللهث خلف الترندات، وأصبحنا نسمع كلمة خليفة فقط في المواليد، فكلنا نرغب في أن يكون لدينا ابن ليحمل عنا اسمنا، وكأن حروف اسمك أصبحت ثقيلة لا تقوى على حملها بمفردك، وترغب في وريث يرث عنك الاسم فقط، وكأن إعمار الكون يقف على اسمك واستمرار الحياة يقف على اسمك.

لم نسمع قط أن العالم أحمد زويل رحمة الله عليه، وهو من طور في خريطة العلوم الفيزيائية والكيمائية، أن أهم أهدافه أن يلد شاباً فتياً ليحمل اسمه، لكنه كان يخلص لعلمه وعمله حتى الممات ليترك إرثًا يفخر به نسله وتلاميذه ووطنه ويتحدث عنه التاريخ ويرثه العلماء.
ماذا سنترك لأبنائنا اليوم سوى اللهث خلف الترند وحفلات الساحل ومهرجان الأخصام؟!، ماذا سنترك للأجيال القادمة مساهمة منا في إعمار الأرض وبقائها؟، كيف تكون الحياة في المستقبل بدون إرث؟ هل تعلم ماذا سنترك اليوم إذا فارقنا الحياة؟ وماذا سندون في مذكراتنا كما دون أجدادنا على الحجارة؟ هل سندون أهم خطوط قصات الشعر؟ أم كم لغة أجنبية تعلمناها؟ أم ما هي المدارس الإنترناشيونال التي تعلمنا بها؟ هل سندون كم قناة طهى لدينا؟ وكم كومباوند؟ هل سندون أسرار جلب الحبيب وفك المربوط؟ ماذا سنترك؟ هل سنترك نسلا متزايدا بدون توعية وقيم ومبادئ؟
لماذا لا نترك سوى الأموال؟ ولا نترك لورثتنا الاهتمام بكيفية الحفاظ عليها؟ لماذا لا نترك سوى الحسد والحقد؟ ولا نترك كيفية حب الخير والعشرة الطيبة، لماذا لا نترك سوى المنظرة والتعالي وحب الشهرة ولا نترك التواضع والإيثار، هل سنترك لهم موسيقى عمر خيرت أم المهرجانات، هل سنترك علوم وفنون واختراعات أم سنترك لهم الفود بلوجر وأم جاسر ومقاطع ساخنة شاهدها قبل الحذف.
بصيغة أخرى وشكل أوضح، ما هي الحضارة التي سوف نتركها للأجيال القادمة؟
“أنا الفكرة اللي عايشة سنين، أنا الموضوع، أنا الصوت اللي وقت الصمت كان مسموع”.
 

title

مقالات ذات صلة

عيش السرايا

13 سبتمبر 2025 09:30 ص

زواج الإنستجرام

30 أغسطس 2025 09:00 ص

عصر البدائل

23 أغسطس 2025 01:28 م

search