
أدب القرود
عندما تلقي لها سوداني وموز تظل "تتنطط "وتلعب سعيدة.. تضحك وتقفز من غصن لغصن أو من كتف لكتف، لا فرق فهي اعتادت على القفز من مكان لآخر بحركات مضحكة وتصفق بيديها مع كل نهاية قفزة.. لكن في اللحظة التي تتوقف فيها عن إلقاء الموز والسوداني لها ستنقلب ضدك وتلقي عليك قشر الموز وقشر فول السوداني.
هل تعرف لماذا لا تقفز "القرود" على شجرة تحتها أسود نائمة، حتى وهي تعرف، أنه ليس من طبيعة أو قدرة الأسد تسلّق الأشجار؟
كثرة "التنطيط" أو القفز على الشجرة، يحمل خطر الوقوع والسقوط على الأرض، وقتها يصبح القرد لقمة سائغة ووليمة شهية للأسود النائمة.. القرد يعي الخطر ويتقيه، يستمسك بالأدب ويعتصم بالرزانة ولو مؤقتا ولو ضد طبيعته..
التشابه بين بعض البشر والقرود تشابه مربك محير قادر على إبهارنا بشكل مثير، نمط التفكير واحد تقريبا نفس خفة الدم الممزوجة ببلاهة مصطنعة.. هذا النوع من البشر يثبت أن التفكير الصفة الأكثر إنسانية والتي تميز البشر ليس عادة إنسانية فقط، بل إن القردة أيضا قادرة على تعلم قواعد اللعب والأدب الذي عرفناه جميعا باسم “أدب القرود”، ذلك الأدب الذي يؤكد أن درجة التشابه في تفكير القردة مع بعض البشر أكبر مما هو متوقع.
"أدب القرود" بيورث من جيل لجيل.. وفي ظني هو استمرار وتواصل لمهنة "القرداتي" التي اندثرت واختفت من شوارع المحروسة.
مهنة "القرداتي" تعتمد على ثنائية القرد والقرداتي يجوبا معا شوارع المحروسة لتقديم عروض بهلوانية ويلتف حولهما عدد من الناس، فيقوم القرداتي بالتطبيل على الدف لكي يساعد شريكه القرد في عملية التسلية بالقيام ببعض الحركات البهلوانية، مثل "عجين الفلاحة"، و"نوم العازب".. يشير له بالعصا فينام، ويحركها جهة أخرى فيضحك، ويشير بها ناحية ثالثة فيستلقي على ظهره ويصفق.
بعض البشر ما زالوا يهوون نفس الثنائية.. يلعبون نفس اللعبة.. القرد يقفز ويمثل نوم العازب وعجين الفلاحة لإسعاد سيده "القرداتي" وتسليته وتسلية شلته المحيطة به في عروض خاصة.. فيلقي كل منهم له بالفول السوداني والموز... يأكل سعيداً ويقدم المزيد من الحركات البهلوانية المبهرة.. والمثير أن القرد لا يتردد في تغيير القرداتي لو سنحت له الفرصة بل ويهاجمه بقسوة وضراوة لمجرد أن القرداتي الجديد لوح له بمزيد من الفول السوداني والموز.
الأكثر إثارة في ثنائية "القرد والقرداتي" أن القرد لا يستطيع أن يعيش بمفرده.. لم يعتاد على كسب قوت يومه بنفسه، اعتاد على أن يلقي له الفول السوداني والموز.. لذلك يظل حزينا كئيباً لو لم يجد سيد يأمره فينقلب من حال لحال.. فهو كقرد أصيل مؤدب أدب القرود لم يعتاد أن يفكر أو يكون له رأي.. لم يعتاد على الاختيار.. فحياته كلها سارت على وتيرة واحدة.. التنطيط كالبهلوان للحصول على المزايا والمكاسب... التنقل من قرداتي لقرداتي يوفر له مزايا أفضل.. وفي طريقه من سيد لسيد لا يتوانى عن إلقاء كل نفاياته وأفكاره الخربة على من يتركه.. وعلى كل من يوقعه حظه العثر في طريقه في فترة الانتقال من حال لحال.. فوقتها يكون القرد عنيفاً يتخبط في قراراته يحطم كل ما يقف في طريقه أو يهدم كل شئ إذا لم ينال ما يريد ويتمنى.. يهدم كل شئ بلا مبرر مفهوم سوى العجز والحيرة والخوف من الاستمرار بلا سيد.. وفي الوقت نفسه ينحني بأدب شديد يقبل أيدي سيده الجديد.. فور الفوز به والاطمئنان على استمرار حصته اليومية من الفول السوداني والموز.
مثل بعض البشر، يستخدم بعض القرود لغة الجسد، يغمز ويلمز كي يوشى ويزقع بمن يقف فى طريق استمراره باحثاً فقط عن الموز.. يهاجم من يبحث له عن وضع أفضل وأكثر كرامة.. لكن القرد أبداً لا يريد بل على العكس يجمع القرود من نوعيته، فهو بارع في تكوين صداقات مع من هم مثله يدعمون بعضهم يتشاركون الطعام ويبنون المزيد من العلاقات ويتوسعون في التعارف مع الأسياد، يلتقي القردة فيقبلون بعضهم بعضاً، يحتضنون، يربتون على الظهور، فالقرود تتواصل فيما بينها بالنطق وتعبيرات الوجه وحركات الجسم، والمثير أن الابتسامة أو شد الشفة وهز الرأس والكتفين إلى الأمام تدل على العدوانية.. القرود في اتفاقاتهم يمسكون بأيديهم ويهزون قبضتهم معاً، يتفقون على التخلص بمن يذكرهم بأنهم مجرد قرود للتسلية والقيام بالحركات البهلوانية... يصرون على استمرار اللعب واللعبة نفسها "القرد والقرداتي" .
الثنائية هذه في ظنى السبب لسوء الفهم لمعنى حكمة القرود الثلاثة.. التي تقول "لا أرى لا أسمع لا أتكلم" قرود التسلية والحركات البهلونية يفهموها بمعنى لا أريد أن أتدخل في شئ.. طالما حصتي من الموز والفول السوداني تصلني... مع أن الأصل في هذه الحكمة اليابانية والتي تعود إلى القرن السابع عشر أن أول هذه القرود يدعى "ميزارو"، وهو الذي يغطي عينيه ويرمز إلى مبدأ “لا أرى الشر”، والثاني يدعى "كيكازارو"، وهو القرد الذي يغطي أذنيه ويرمز إلى مبدأ "لا أسمع الشر" ، والثالث يدعى "ايوازارو"، القرد الذي يغطي فمه ويرمز إلى مبدأ "لا أتكلم الشر".
وتقول الأسطورة اليابانية أن هناك قردا رابعا يضاف لهم ويدعى "شيزارو"، يرمز لمبدأ "لا أفعل الشر"، ويعبر عن رفضه لفعل الشر بتكتيف يديه.
احذر من القرد الذي ظل طوال حياته يأكل من لعبة عجين الفلاحة ونوم العازب.. ويتقلب يميناً ويساراً ويستلقي على ظهره ويصفق بيديه لكل من يشير له بالعصا ويكافئه بالفول السوداني والموز... احذر منه فهو سيلقيك بالقشر مع أول فرصة تسنح له أملاً في كسب ود قرداتي جديد.

الأكثر قراءة
-
الرقصة الأخيرة.. لحظة القبض على "طارق ميشو" بالإسكندرية (صور)
-
مشاجرة بأكياس الشطة.. "خناقة" في الشروق تنتهي بإصابة أسرة كاملة
-
عمرهما 5 سنوات.. ضبط مدرس خدش براءة صغيرتين بحضانة مدرسة دولية بأكتوبر
-
لماذا امتنعت تونس والعراق وإيران عن التصويت على حل الدولتين؟.. أستاذ علوم سياسية يوضح
-
ما يحدث تهديد لاتفاقية السلام القائمة.. رسالة حاسمة من السيسي لـ إسرائيل
-
"المشردة المثقفة".. "ولاء" أنهكتها قسوة الحياة فقررت عشق الشارع
-
ضبط شقيقين بحوزتهما مواد مخدرة وأسلحة نارية في الفيوم
-
دبوس معدني وقطع فول.. فريق مجمع الأقصر الطبي ينقذ صغيرتين من الاختناق

مقالات ذات صلة
الحمار!
03 سبتمبر 2025 01:13 م
"بوز الإخص"
31 أغسطس 2025 01:21 م
رشدي الدقن يكتب: حلاوة زمان
28 أغسطس 2025 01:19 م
أكثر الكلمات انتشاراً