الأحد، 28 سبتمبر 2025

06:39 م

لماذا يقع البعض في إدمان تصوير وتوثيق اللحظات الحميمية؟!

لم تعد الكاميرا مجرد أداة للاحتفاظ بالذكريات، بل تحوّلت إلى وسيلة لإثبات الحضور وطلب الاعتراف، حتى بات البعض يستعملها كنافذة يطلّ منها على الآخرين طمعًا في نظرات إعجاب أو إثارة فضول. 

ومع هذا التحوّل ظهرت ممارسات خطيرة، أبرزها قيام قلة من الناس بتصوير وتوثيق لحظات حميمية يفترض أن تظل حكرًا على خصوصيتهم، بل وتمادى بعضهم إلى نشر تلك المقاطع على مواقع التواصل وكأنها بطاقة عبور إلى شهرة زائفة. ما كان في الماضي سرًا أصبح اليوم مادة متاحة للمشاهدة والتعليق، وما كان يخص اثنين فقط صار معروضًا أمام مئات أو آلاف الغرباء، في مشهد يعكس تراجعًا حادًا في معايير الحياء والذوق.

ومن بين أخطر هذه الفئات، يبرز بعض الساقطين والساقطات الذين يتعمّدون منذ البداية تصوير لحظاتهم الحميمية ليس فقط للاحتفاظ بها، بل بهدف استخدامها لاحقًا كورقة شهرة أو وسيلة ابتزاز مادي. هؤلاء لا يتوقفون عند حدّ التوثيق، بل يتعاملون مع أجسادهم وعلاقاتهم كسلعة قابلة للمساومة. منهم من يحسب نفسه على المشاهير أو يتوهم أن الطريق الأقصر إلى الأضواء يمر عبر كسر التابوهات وإثارة الغرائز، فيرى أن الصدمة تجلب المتابعين وتفتح أبواب الربح السريع، حتى وإن كان الثمن سمعتهم وكرامتهم.

يكشف هذا السلوك عن فراغ داخلي عميق. هؤلاء الأشخاص يعيشون غالبًا صراعًا مع شعور بالنقص أو بانعدام القيمة، فيلجؤون إلى ما يُسمى “التعويض المفرط”؛ أي المبالغة في عرض ما يظنونه مثيرًا كي يغطوا على هشاشتهم الخفية. إنهم يتوقون إلى نظرات الآخرين وتصفيقهم لأنهم لا يجدون في ذواتهم ما يكفي من الثقة أو التقدير. 

كما يلعب ما يعرف بـ"التعزيز الفوري" دورًا بارزًا، فكل إعجاب أو تعليق يشبه جرعة تمنحهم نشوة مؤقتة، تجعلهم يعودون لتكرار الفعل طلبًا لمزيد من الجرعات، في دائرة إدمانية لا تعرف الاكتفاء. وفي كثير من الحالات، يكون هذا السلوك مؤشرًا على اضطرابات في الهوية أو الحرمان العاطفي، حيث يبحث الفرد عن أي وسيلة تمنحه إحساسًا مصطنعًا بالقبول.

تعكس هذه الظاهرة خللاً في سلم القيم وتغذية مستمرة لثقافة الاستعراض. في فضاء رقمي تُقاس فيه مكانة الإنسان بعدد المتابعين والمشاهدات، أصبح كشف الخصوصية أداة تسويق، وأضحى التباهي بما كان يُستحى من ذكره وسيلة لتحقيق أرباح وإعلانات. وحين يرى الشباب نماذج تحصد شهرة ومالًا من خلال نشر ما يفترض أن يُصان، تتسرب رسالة خطيرة مفادها أن القيم يمكن بيعها، وأن الكرامة الشخصية مجرد ورقة تُبادَل مقابل بضع دقائق من الأضواء. هذا التطبيع يضعف إحساس المجتمع بقدسية الحياة الخاصة، ويفتح الباب أمام تكرار التجربة من آخرين يبحثون عن مكان في دائرة الشهرة السريعة.

ولا يقف تأثير هذا السلوك عند حد المتابعين، بل يمتد إلى العلاقات نفسها. فحين تتحول اللحظة العاطفية إلى مادة للنشر، تفقد العلاقة جوهرها القائم على الأمان والثقة، ويغدو الحب لعبة مكشوفة يشارك فيها الغرباء بأحكامهم وتعليقاتهم. كثير من هذه العلاقات لا تصمد طويلًا؛ إذ يكتشف أحد الطرفين أنه كان مجرد أداة لجذب المتابعين، أو أن ما قُدِّم على أنه حب لم يكن سوى مشروع تجاري مبطن. وفي النهاية، تبقى الصور والمقاطع كأدلة على عبث لم يجلب سوى الندم.

مواجهة هذه الظاهرة تتطلب أكثر من مجرد استهجان أخلاقي. على مستوى الفرد، من المهم تعزيز مفهوم الكرامة الداخلية، وتذكير الشباب بأن القيمة الحقيقية لا تأتي من عدد المتابعين، بل من احترام الذات وصون ما لا يقدّر بثمن. 

ومن الضروري أيضًا رفع الوعي بمخاطر النشر الرقمي غير المسؤول؛ فالمقاطع التي تُشارك اليوم قد تتحول غدًا إلى أداة ابتزاز أو فضيحة، مهما كان مستوى الأمان أو الخصوصية المزعومة. أما على المستوى المجتمعي، فيجب أن تتبنى المنصات الإعلامية والسياسات التربوية خطابًا يفضح زيف هذه الشهرة، ويكسر الهالة التي يحيط بها أصحابها أنفسهم. بدل الاحتفاء بهم، ينبغي التركيز على الأثمان النفسية والاجتماعية التي يدفعونها: القلق الدائم، فقدان العلاقات الصادقة، وصعوبة استعادة السمعة بعد انطفاء الأضواء.

القوانين والتشريعات كذلك لها دور لا يقل أهمية. فالتجارب أثبتت أن مشاعر الرضا قد تتحول في لحظة خلاف إلى سلاح تهديد، وأن ما صُوّر بموافقة قد يصبح مادة للابتزاز عند أول نزاع. وجود قوانين صارمة تحمي الأفراد من هذه المخاطر يبعث رسالة بأن الحرية الرقمية لا تعني الفوضى، وأن كرامة الإنسان خط أحمر لا يمكن تجاوزه حتى برضاه المؤقت.

في العمق، تبقى الحقيقة البسيطة أن ما يُعاش في خصوصية القلب أجمل وأصدق من أي لقطة تنشر على الشاشات. الشهرة التي تقوم على فضح الذات لا تمنح طمأنينة ولا تصنع قيمة حقيقية، بل تترك أصحابها أسرى فراغ أكبر مما كانوا عليه. وحدها العلاقات التي تعرف كيف تصون أسرارها وتكتفي بشهودها الحقيقيين هي التي تدوم وتزدهر، أما من يلهث وراء تصفيق عابر فسرعان ما يكتشف أن كل هذا الوميض كان مجرد سراب.

search