الإثنين، 29 سبتمبر 2025

06:57 م

ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر: بين الحلم والواقع

تمر في الثامن والعشرين من سبتمبر كل عام ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، ذلك اليوم الذي ما زال محفورًا في ذاكرة الأمة العربية، ليس فقط كذكرى وفاة رئيس مصر، بل كفصل حاسم في تاريخ العرب جميعًا. رحل عبد الناصر عام 1970، لكن ظله ظل ممتدًا في كل بيت وشارع، في الوعي الجمعي للمصريين والعرب، وكأن غيابه الجسدي لم يمنع حضوره الرمزي من البقاء حيًا ومتوهجًا.

عبد الناصر لم يكن مجرد رجل حكم مصر بعد ثورة يوليو 1952، بل كان تجسيدًا لمشروع وطني وقومي أراد أن يعيد صياغة العلاقة بين الشعوب العربية وبين أحلامها الكبرى. رفع شعارات “الحرية، الاشتراكية، الوحدة”، وأدخلها إلى وجدان الجماهير لتصبح جزءًا من أحاديثهم اليومية وأحلامهم البسيطة. كان يؤمن بأن الأمة العربية يمكن أن تنهض إذا امتلكت قرارها، وأن الكرامة الوطنية ليست رفاهية بل حق لا يقبل المساومة.

إرث داخلي عميق

في الداخل، أحدث عبد الناصر تحولاً اجتماعيًا جذريًا. فمن الإصلاح الزراعي الذي حرر ملايين الفلاحين من هيمنة الإقطاع، إلى مجانية التعليم التي فتحت أبواب العلم لأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، صنع مشروعًا للدولة الحديثة يقوم على العدالة الاجتماعية. لم تكن خطواته بلا أخطاء أو تحديات، لكن لا أحد ينكر أنه غيّر خريطة المجتمع المصري. فجعل من الفلاح والعامل ركيزة في بناء الوطن، ومن الشباب أداة للتغيير.

زعامة عربية

أما عربيًا، فقد تحوّل عبد الناصر إلى رمز للقومية العربية. كان صوت القاهرة يصل إلى أبعد العواصم من المحيط إلى الخليج عبر إذاعة “صوت العرب”، التي زرعت في القلوب حلم الوحدة. صحيح أن هذا الحلم لم يتحقق كما أراده، وأن تجربة الوحدة مع سوريا لم تدم طويلاً، إلا أنها كانت تعبيرًا صادقًا عن إرادة جمع الصف العربي في مواجهة الاستعمار والهيمنة الأجنبية.

موقف دولي مؤثر

وعلى الساحة الدولية، كان عبد الناصر أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز، ليضع مصر والعالم العربي في موقع فاعل بين القطبين المتصارعين آنذاك؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أراد أن يكون للعالم الثالث صوت مستقل، ورفع راية الشعوب المستضعفة في مواجهة الاستغلال. لم يكن يملك الثروات الهائلة أو القدرات العسكرية الجبارة، لكنه امتلك الإرادة السياسية والشجاعة.

الهزيمة والانكسار

لم تكن مسيرة عبد الناصر بلا جراح. فهزيمة يونيو 1967 مثلت صدمة كبرى هزت ثقة الأمة في نفسها قبل أن تهز الجيش. ومع ذلك، خرجت الملايين في مصر والعالم العربي إلى الشوارع ترفض استقالته، في مشهد يعكس علاقة استثنائية بين القائد وشعبه. لم يكن مجرد حاكم، بل رمز ارتبطت به آمال الملايين.

الرحيل والصدى

في يوم رحيله، بكت القاهرة كما لم تبك من قبل. خرجت الملايين في جنازته، وكان المشهد مهيبًا: دموع رجال ونساء، عرب وأفارقة وآسيويين، قادة وشعوب، اجتمعوا جميعًا حول نعش الزعيم. لم يكن الحزن فقط على رجل توفي، بل على حلم فقد ركائزه.

الإرث الممتد

اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود على غيابه، ما زال الجدل قائمًا: هل كان عبد الناصر بطلًا قوميًا قاد الأمة إلى الاستقلال والكرامة؟ أم أنه زعيم حالِم أخطأ في حساباته؟ لكن مهما اختلفت الآراء، يبقى الثابت أن جمال عبد الناصر شكّل وعي أجيال، وأرسى معاني الكبرياء الوطني. ما زال اسمه يتردد كلما تحدث الناس عن العزة والعدالة الاجتماعية، وما زالت صورته تزين جدران البيوت والمقاهي في أحياء مصر الشعبية.

بين الماضي والمستقبل

إن استحضار ذكرى جمال عبد الناصر ليس مجرد عودة إلى الماضي، بل هو دعوة للتفكير في المستقبل. كيف يمكن أن نستلهم من تجربته الإيجابية دون أن نكرر أخطاءها؟ كيف نعيد إحياء روح الكرامة والوحدة في زمن التمزق والانقسام؟ تلك هي الأسئلة التي يجب أن ترافقنا كلما ذكرنا اسمه، لأنه لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان مشروعًا وحلمًا وأمة في رجل واحد.

وفي النهاية، يبقى رحيل عبد الناصر علامة فارقة في التاريخ الحديث، ويبقى إرثه شاهدًا على أن الشعوب يمكن أن تنهض إذا امتلكت إرادة ورجالاً يؤمنون بها. وبين الحلم الذي عاشه والواقع الذي نعيشه، يبقى صدى صوته يذكرنا دومًا بأن “الحرية والكرامة ليستا منحة، بل حق يُنتزع”..

search