
رجل من مصر على عرش اليونسكو
في باريس، حيث تقف المباني كأنها شواهد قبور لأزمنة مضت، وحيث للأفكار رائحة العطور القديمة، كان هناك مبنى حجري لا يشبه بقية المباني. مبنى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، أو "اليونسكو" كما يعرفه العالم. هذا المبنى الذي تأسس على أنقاض حرب عالمية ليدافع عن العقل في مواجهة الرصاص، كان ينتظر شيئاً ما. شيء لم يكن يعرفه تماماً، لكنه كان يشعر به في برودة رخامه.
في يوم السادس من أكتوبر، وهو يوم له في ذاكرة المصريين ما له من حكايات الدم والنصر، كانت هناك معركة أخرى، لا تدور رحاها في سيناء، بل في قاعات مغلقة تفوح منها رائحة الأوراق الرسمية والكلمات المنمقة؛ معركة على منصب المدير العام لليونسكو. لم تكن مصر غريبة عن هذه المعارك، فقد خاضتها من قبل، وعادت بقلب جريح. لكن هذه المرة، كان الأمر مختلفاً.
النتيجة لم تكن فوزا. كانت اكتساحاً؛ شهادة إجماع دولية نادرة الحدوث، 55 دولة من أصل 57 تضع ورقتها في الصندوق وتقول نحن "نريد هذا الرجل". رجل من مصر اسمه خالد العناني، لم يكن التصويت لشخصه فقط، بل كان تصويتاً لفكرة، لحكاية، لمشروع كرامة صامت عملت عليه الدبلوماسية المصرية في الخفاء طوال 30 شهراً، بعيداً عن ضجيج الإعلام وصراخ المزايدين.
خالد العناني ليس سياسياً محترفاً بالمعنى التقليدي، فهو رجل جاء من قلب التاريخ؛ أستاذ جامعي قضى عمره يفك طلاسم اللغة الهيروغليفية، ويستمع إلى همس الحجارة في الكرنك، ويعرف أسماء الملوك الذين حكموا مصر قبل آلاف السنين. وعندما أصبح وزيراً، لم يتعامل مع الآثار كأنها حجارة صماء، بل كأنها شهود حيّة على عظمة بلاده.
العالم لم يكن قد نسي ذلك اليوم في أبريل 2021. يوم أن تحوّلت شوارع القاهرة إلى مسرح مهيب لأعظم استعراض في التاريخ الحديث. موكب المومياوات الملكية. لم يكن استعراضاً، بل كان رسالة. فالعناني، بصفته الوزير المسؤول، أخرج ملوك مصر من مرقدهم الزجاجي ليقولوا للعالم بصوت صامت "نحن هنا... هذه هي مصر". يومها، شاهد العالم كله، وفهم الرسالة. وفهم أيضاً أن الرجل الذي يقف خلف هذا العمل ليس مجرد إداري، بل هو "صانع حكايات" من طراز رفيع. ثم كررها في افتتاح طريق الكباش بالأقصر، فجعل العالم مرة أخرى يقف مبهورًا أمام عظمة التاريخ المصري.
لم يفز العناني بالمنصب لأنه يتقن الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، أو لأنه يحمل سيرة ذاتية أكاديمية مبهرة. فاز لأنه حمل معه مشروعًا واضحاً "اليونسكو من أجل الشعوب". فاز لأنه عندما كان وزيراً، أعاد لمصر قطعاً أثرية كانت مسروقة، ورمم متاحف كانت منسية، وجعل من الثقافة المصرية حديث العالم.
إن وصول مصري إلى قمة اليونسكو، ولأول مرة في تاريخها، ليس مجرد خبر عابر في شريط الأخبار، بل إنه فصل جديد في كتاب طويل اسمه "العربي الجريح". فصل يقول إن الهزائم ليست قدراً أبدياً، وإن الصمت أحياناً أقوى من كل الخطب الرنانة، وإن ورقة انتخابية واحدة، إذا حملت الصدق والإعداد الجيد، يمكن أن تفعل ما لا تفعله الجيوش.
لقد تسلّم الدكتور خالد العناني مفاتيح مبنى باريسي بارد، لكن على كتفيه مسؤولية تدفئته بروح مصر وتاريخها وثقافتها. مسؤولية أن يجعل من اليونسكو صوتاً حقيقياً للعلم في مواجهة الجهل، وللثقافة في مواجهة التطرف. لقد فاز الرجل، ولكن الأهم، في ذلك اليوم الذي يحمل رمزية النصر، فازت مصر. ولم يكن تصويتاً، بل كان اعترافاً بمكانة مصر الدولية.

الأكثر قراءة
-
ظهرت خلال تأمين وفد حماس.. ما هي الفرقة G.I.S؟
-
ترويض الفيضان.. قصة عمرها آلاف السنين وأبطالها المصريون القدماء
-
السادات أفصح لمبارك بحقيقة أشرف مروان.. ماذا قال؟
-
رسميا.. الدنماركي ياس سوروب مديرا فنيا للأهلي لمدة موسمين
-
ابتسامة ودموع.. لقاء مؤثر يجمع بطلين من حرب أكتوبر بعد 52 عامًا
-
قبول طلبات التقدم لحج القرعة بدءًا من هذا الموعد.. الإجراءات والشروط
-
القيادة في زمن الإرهاق.. درس بيبو الأخير
-
من هو ياس سوروب مدرب الأهلي الجديد؟

مقالات ذات صلة
الاعتراف بفلسطين.. بين ورق السياسة ودماء غزة
24 سبتمبر 2025 02:19 م
الأديب العالمي نجيب محفوظ.. ما زلنا نحاصره بعد الموت
31 أغسطس 2025 01:39 م
أوهام إسرائيل الكبرى
19 أغسطس 2025 10:45 ص
البحر مش دايمًا أزرق
31 يوليو 2025 12:30 م
أكثر الكلمات انتشاراً