السبت، 01 نوفمبر 2025

12:34 ص

فوضى المجلات الأكاديمية الوهمية.. من يسرق شرف البحث العلمي؟

في السنوات الأخيرة تفاقمت ظاهرة خطيرة تهدد جوهر البحث العلمي ومصداقيته، وهي ظاهرة ما يُعرف بالمجلات العلمية التابعة لمراكز بحثية «تحت بير السلم» إن جاز التعبير، تلك الكيانات التي نبتت فجأة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتدعي أنها مجلات محكمة أو أكاديمية، بينما هي في حقيقتها لا تمتّ للعلم بصلة، ولا تعرف من معايير النشر سوى اسمه، مواقع إلكترونية أنيقة، شعارات براقة، ولجان تحكيم وهمية مزعومة، لكنها في جوهرها لا تضم سوى مجموعة من الأشخاص الذين جعلوا من البحث العلمي تجارة، ومن طموح الباحثين سلما للكسب غير المشروع.

المشكلة لا تتوقف عند كونها محاولة احتيالية لكسب المال، بل تتجاوز ذلك لتشكل تهديدا مباشرا لقيمة العلم ذاته، فعندما يتحول النشر العلمي إلى عملية بيع وشراء، تفرغ المعرفة من مضمونها، وتصبح الورقة البحثية مجرد سلعة معروضة لمن يدفع أكثر، بعض تلك المجلات تروج لنفسها باعتبارها دولية أو مصنفة، وتوهم الباحثين الشباب بأن النشر فيها سيعزز مكانتهم الأكاديمية، بينما الحقيقة أنها ليست سوى مواقع لا تمتلك رقما دوليا موثقا، ولا قاعدة بيانات معترف بها، ولا لجان تحكيم حقيقية، بل ترسل الأبحاث وتنشر خلال أيام مقابل رسوم مالية ثابتة، وكأن الأمر صفقة لا علمية.

من المؤسف أن تلك الفوضى وجدت بيئة خصبة للنمو بسبب غياب الرقابة وضعف الوعي الأكاديمي، الباحث المبتدئ الذي يسعى إلى الترقية أو استكمال متطلبات رسالته قد يقع ضحية سهلة، خصوصا في ظل ضغوط الجامعات التي تطلب عددا محددا من الأبحاث المنشورة دون أن تدقق في جودة المجلات أو موثوقيتها، هنا تتقاطع المسؤوليات، فاللوم لا يقع فقط على القائمين على تلك المجلات المشبوهة، بل يمتد ليشمل المؤسسات الأكاديمية التي تغض الطرف عن هذه الممارسات، والجهات الرسمية التي لا تتحرك بما يكفي لوضع حدٍ لتلك الفوضى التي تنخر في جسد البحث العلمي العربي.

المجلس الأعلى للجامعات، ووزارات التعليم العالي في الدول العربية، تتحمل مسؤولية كبرى في وضع قوائم واضحة للمجلات المعتمدة والمشبوهة، وإعلانها بشكل رسمي للباحثين، مع فرض عقوبات صارمة على كل من يتورط في النشر داخل تلك المجلات الوهمية أو يشجع عليها، لكن المؤسف أن التحذيرات غالبا ما تبقى حبرا على ورق، بينما يستمر البعض في نشر الأبحاث دون مراجعة أو تحكيم، في مشهد يفرغ مفهوم «النشر العلمي» من مضمونه ويجعلنا أمام واقع يثير السخرية أكثر مما يثير الإعجاب.

من ناحية أخرى، لا يمكن إعفاء بعض الجامعات من المسؤولية الأخلاقية؛ فهي التي خلقت بيئة الترقية بالأرقام لا بالقيمة، وجعلت الباحث يقيس نجاحه بعدد أبحاثه المنشورة لا بجودة فكره أو أصالة نتائجه، ومع غياب الدعم المالي والمعنوي للمجلات الوطنية الجادة، وارتفاع تكاليف النشر في الدوريات العالمية المعترف بها، يجد كثير من الباحثين أنفسهم أمام طريقين أحلاهما مر: إما أن ينتظروا سنوات لنشر بحثهم في مجلة محترمة، أو يسلكوا طريق المجلات «تحت بير السلم» التي تفتح ذراعيها لمن يدفع وتمنحه لقب باحث منشور دوليا، إنها مأساة تتكرر بصمت، وتنتج كل عام مئات الأوراق التي لا تحمل قيمة علمية، لكنها تملأ السير الذاتية وتشوّه المشهد البحثي العربي.

المسؤولية هنا لا تتوقف عند المؤسسات، بل تمتد إلى الباحث نفسه، فالباحث الحقيقي لا يقاس بما يملكه من أوراق منشورة، بل بما يقدمه من فكر نقدي ومنهج علمي منضبط، عليه أن يتحرى قبل النشر: هل المجلة تمتلك رقم ISSN موثقا؟ هل تدرج في قواعد بيانات معترف بها مثل Scopus أو Web of Science؟ هل لديها هيئة تحرير معروفة وسير أكاديمية يمكن التحقق منها؟ أم أنها مجرد واجهة إلكترونية بلا هوية؟، إن أول خطوة في مقاومة هذه الفوضى تبدأ من وعي الباحث ومسؤوليته الأخلاقية تجاه مهنته.

السكوت عن هذه الظاهرة يعني القبول بواقع مزيف يزيف التاريخ الأكاديمي لأجيال قادمة، فحين تصبح الأبحاث الوهمية مساوية للأبحاث الجادة في التقييم والترقية، يفقد العلم قيمته، ويصبح الفارق بين المجتهد والمتحايل مجرد فارق في المهارة التسويقية، الأخطر من ذلك أن تلك المجلات بدأت تستخدم وسائل ترويج متطورة، بعضها يوهم الباحث بأنه سينشر في قاعدة بيانات عالمية، أو يمنحه شهادة تحكيم دولية لا أساس لها من الصحة، في حين تسجل الأرباح في حسابات خاصة وتباع الأكاديمية تحت مسمى مركز بحثي، إنها فوضى حقيقية، عنوانها الغش الأكاديمي في ثوب علمي.

لقد آن الأوان لأن تكون هناك إرادة حقيقية لمواجهة هذه الظاهرة، لا بالشعارات، بل بالفعل، على الجامعات أن تتوقف عن مكافأة النشر في تلك المجلات، وعلى المجالس الأكاديمية أن تنشر القوائم السوداء بشكل علني، وعلى وسائل الإعلام أن تسلط الضوء على هذه الممارسات كما تسلط الضوء على قضايا الفساد المالي، ففساد الفكر لا يقل خطورة عن فساد المال، وكلاهما يهدم المجتمع من الداخل.

من يظن أن هذه الظاهرة بسيطة فهو لا يدرك عمق الكارثة، إنها ليست مجرد أبحاث مزيفة تنشر هنا أو هناك، بل منظومة كاملة من التزييف تضرب أساس الثقة في العلم العربي، حين يختلط الغث بالثمين، وحين يصبح كل من يملك مالًا قادرًا على نشر بحث، فقل على الصدق العلمي السلام، إنها جريمة بحق الأجيال القادمة، وبحق الباحثين الشرفاء الذين يقضون سنوات في إعداد بحث واحد يخضع للتحكيم والمراجعة والرفض أحيانا، بينما آخرون يكتبون بحثا في أسبوع وينشرونه في يومين.

إن مواجهة هذه الفوضى واجب وطني وأخلاقي قبل أن يكون أكاديميًا، لا بد من تحرك مؤسسي حقيقي يعيد الانضباط للساحة البحثية، ويعيد الاعتبار للمجلات العلمية الرصينة التي تعمل بصمت وجدية، لا بد من إعادة تعريف معنى «النشر العلمي» في وجدان الباحث العربي: ليس هو النشر السريع أو المدفوع، بل هو العمل الذي يخضع للتحكيم، ويضيف للمعرفة شيئا جديدا، ويخدم مجتمعه بصدق.

لن ينهض البحث العلمي إلا حين نحميه من المزيفين. ولن نحميه إلا حين نعلن بوضوح أن من يدعي العلم دون تحكيم أو مصداقية ليس باحثا، بل مزور يرتدي معطف الأكاديميا، هذه ليست مبالغة، بل الحقيقة المرة التي يجب أن نواجهها بشجاعة، العلم لا يزدهر في الظل، ولا يعيش تحت بير السلم، بل في ضوء الحقيقة وحدها.

search