بين الفلسفة والسياسة: كيف أسس ابن رشد لعقلانية عربية مفقودة؟
ليس الهدف من كتابة هذا المقال سرد حياة ابن رشد، بل الحديث عن فكرٍ تنويريٍّ أثَّر في الفلسفة الإنسانية بأسرها، وكان نواةً لعصر التنوير الأوروبي، فبفضله ظهر جون لوك وفولتير وجان جاك روسو ورينيه ديكارت، أولئك الذين أناروا العالم بالفكر المنطقي والعقلاني.
لكن قبلهم بزمنٍ بعيد، كان شاعر العربية الكبير أبو العلاء المعري قد سبقهم إلى هذا الفكر عندما قال: «لا إمام سوى العقل». فالعقل لا يُقاد، بل يُضاء؛ فإذا استنار أبدع، وإذا أبدع ملأ الكون نورًا.
ولذلك قال الله تعالى: «فَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي»، وكأن الله أراد أن يقول إن الإنسان الذي خُلِق وفضِّل على سائر المخلوقات، إنما خُلِق للإبداع والابتكار والتنوير، وكل من أبدع في هذا الكون بقيت سيرته تُروى في الكتب والجامعات والمجلات العلمية.
قال ابن رشد: «إن الله خلق لنا شرائع لا تتنافى مع عقولنا».
ومن خلال قراءةٍ استنباطية تحليلية، نجد أن كتاب ابن رشد «فصل المقال» لم ينل حقه من الشرح أو الانتشار كوسيلة فكرية قادرة على كشف عمق هذا الرجل. فقد صوّره البعض بأنه "أرسطو الثاني"، لكن الحقيقة أنه لم يكن تابعًا لأرسطو، بل كان مفكرًا عربيًا خالصًا أبدع في مختلف المجالات.
في كتابه «فصل المقال»، تناول ابن رشد المشكلات الفكرية بين فِرَق علم الكلام، بين المعتزلة والأشاعرة، وردَّ عليهم ردًّا منطقيًّا متماسكًا. أما في كتابه العظيم «تهافت التهافت»، فقد ردَّ على أبي حامد الغزالي، الذي كان لا يعترف بوجود الفلاسفة، واعتبر كلامهم كالبعوض الذي يسقط في نار الكُوَّة.
فجاء رد ابن رشد حاسمًا، موضحًا أن الفلسفة تعني الحكمة، وأن الغزالي ظلم الفلاسفة بهذا التصور الضيق.
أما عن السياسة، فقد كان ابن رشد سياسيًا بارعًا وقاضيًا فقيهًا في الأندلس، وكتب كتابه المهم «الضروري في السياسة»، الذي عكس فكره الإصلاحي في إدارة الحكم والعلاقة بين العقل والسلطة.
وقد تسبب هذا الكتاب في خلافٍ بينه وبين الخليفة المنصور، بعد أن وشى به البعض بأنه وصف الخليفة بأنه "ملك البربر". وعلى إثر ذلك، غضب الخليفة، فعزله ونفاه إلى قرية "اليسانة" وأمر بحرق كتبه.
وكانت النتيجة المأساوية أن بدأ بعدها انحدار الأندلس وسقوط غرناطة، وكأن محنة ابن رشد كانت نذيرًا بانطفاء آخر شمعة من نور العقل في الحضارة العربية.
إن ابن رشد هو النموذج الحقيقي للمفكر العربي الذي يجب أن يُحتذى به؛ فقد كان فقيهًا في الدين، وعالمًا في الفلك، ومتمكنًا من علم حساب المثلثات، وطبيبًا ماهرًا، وناقدًا لغويًا، وصاحب مؤلفات في شتى فروع المعرفة.
ولعل ما يدهش الكثيرين أن الجامعات الأمريكية والأوروبية خصصت مقعدًا علميًا باسم "مقعد الرشديين" نسبةً إلى ابن رشد، تكريمًا لعقله المستنير وفكره الحر الذي تجاوز عصره وحدود ثقافته.
لقد كان ابن رشد بحق رمزًا للعقلانية العربية المفقودة، ومثالًا لما يمكن أن تكون عليه أمتنا إذا جعلت من العقل نورًا ومن الفكر سبيلًا للنهوض..
الأكثر قراءة
-
وداعاً داود عبد السيد.. فيلسوف السينما المصرية
-
توقعات الأبراج اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025، هناك فرص كثيرة متاحة
-
بعد إعلان اغتياله رسميًا، "حماس" تكشف عن صورة واسم أبو عبيدة الحقيقي
-
بعد إعلان "القسّام" اغتياله رسميا، من هو أبو عبيدة؟
-
موعد مباراة المغرب وزامبيا في كأس الأمم الأفريقية والقنوات الناقلة
-
نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 في جولة الإعادة بسوهاج
-
"اتجوزت 4 مرات ومعايا إعدادية".. نص التحقيقات مع البلوجر نورهان حفظي (خاص)
-
الحصر العددي لأصوات الدائرة الأولى بالفيوم، محمد فؤاد زغلول يتصدر
مقالات ذات صلة
ماذا تريد الولايات المتحدة من فنزويلا؟
24 ديسمبر 2025 01:48 م
لغز الخلاف بين صلاح وليفربول: صراع خفي يهدد أسطورة الريدز
08 ديسمبر 2025 12:47 م
اختراق الجدار العربي: أبعاد ومخاطر المشروع الإسرائيلي الجديد
28 نوفمبر 2025 04:23 م
السودان في مواجهة المصير المجهول
20 نوفمبر 2025 01:16 م
أكثر الكلمات انتشاراً