الجمعة، 12 ديسمبر 2025

12:08 م

خرافة تبحث عن ضحية.. البشعة وبشاعة ما وصلنا إليه

البشعة ليست مجرد ممارسة شعبية بسيطة، بل حالة كاملة من الوهم والمهانة، تمتد جذورها في عمق تصورات مغلوطة عن الحقيقة، وتغذيها رغبة قديمة لدى بعض الناس في إيجاد وسيلة سريعة تكشف ما يخفونه عن أنفسهم قبل غيرهم. هي ممارسة تعود بنا إلى عصور لم يكن العقل فيها محورًا لفهم الأمور، ولم تكن كرامة الإنسان أساسًا في التعامل معه، لذلك تبدو البشعة فعلًا يتعارض مع كل ما تعلمناه من دين وإنسانية وعدل.

البشعة تفرض نفسها على الحياة في لحظات يشتد فيها الشك وتتعقّد فيها التفاصيل، فتُستدعى النار لتقوم بدور القاضي، ويتحوّل الجسد إلى مساحة اختبار، ويتحوّل الإنسان إلى مادة قابلة للشك والاتهام والامتحان. الفكرة في ذاتها تعكس إيمانًا واهيًا بأن الألم قادر على كشف الحقيقة، وأن الجلد يمكن أن يخبر بما تخفيه الروح، وأن الحرق يمكن أن يفضح من يخطئ أو يبرئ من يصيب. وهذا وحده كافٍ ليكشف حجم المفارقة بين ما يُمارس وما يُفترض أن يكون.

الأمر لا يتعلق فقط بعملية لمس أداة ساخنة أو لعقها، بل بعمق المشهد الذي يُنتج هذه الممارسة. شخص يقف أمام مجموعة من الناس، يواجه شكًا لم يُبنَ على دليل، ويُطلب منه أن يثبت صدقه بإيذاء جسده، كأن البراءة تحتاج نارًا لتُثبت، أو كأن الحقيقة تختبئ في الوجع، أو كأن الكذب لا يتحمّل الحرارة. كل هذا التمثيل القاسي يضرب في جوهر الإنسان، ويعيد تعريفه ليس باعتباره كائنًا حرًا له كرامة، بل باعتباره مجرد جسد يُختبر لمعرفة ما بداخله، وكأن الداخل لم يُخلق ليبقى في يد الله وحده.

الخرافة دائمًا ما تحاول أن تمنح نفسها شرعية، والبشعة تحديدًا تُقدَّم باعتبارها «طريقة مضمونة» لكشف الصدق. هناك من يستحضرها بثقة كاملة وكأنه يمارس طقسًا قدسيًا، ويؤمن بأن النار لا تجامل، وأن الألم لا يخدع، وأن الجسد لا يستطيع أن يخفي حقيقة نية أو فعل. مثل هذه القناعات تُظهر كيف يمكن للإنسان أن يُسلم عقله للخوف وللإرث الثقافي وللضغط الاجتماعي، فيستبدل التفكير بالأعراف، ويستبدل المنطق بالطقس، ويستبدل الحق بالإكراه.

الألم لا يكشف صدقًا ولا يفضح كذبًا. الألم فقط يهزم الإنسان، يجعل صوته أضعف من أن يدافع، ويجعله مستعدًا لقول أي شيء يخرج به من دائرة الأذى. لذلك لم تسقط البشعة ضحية الجهل فقط، بل ضحية الظلم أيضًا. فهناك من اعترف بما لم يفعل خوفًا من الاحتراق، وهناك من نجا من الاتهام لأنه تحمّل الوجع. فهل يمكن أن تُبنى الحقيقة على هذا النوع من الاختبار؟ وهل يمكن أن يُختزل الإنسان في قدرته على احتمال النار؟

الممارسة في جوهرها اعتداء على خصوصية الله في علم الغيب، لأن معرفة ما تخفيه الصدور ليست ملكًا لبشر. من هنا جاء الموقف الديني واضحًا وصريحًا، فالأزهر الشريف ودار الإفتاء أكدا أنها ممارسة باطلة، لا أصل لها في الشرع، ولا تمتّ للعدالة بأي صلة. الدين لا يعرف تحصيل الحق بالكيّ، ولا يعتبر الألم وسيلة لكشف النوايا، ولا يقبل أن يُختبر الإنسان بما يهدر كرامته. الشرع قائم على البرهان والدليل، لا على الامتهان والإذلال.

الضرر النفسي الذي تُخلّفه البشعة أعمق بكثير من أثر الحرق. فالجلد يلتئم، لكن الروح تحتفظ بمرارة المشهد وبقسوته وبالإحراج الذي لا يُمحى، والإنسان يخرج من التجربة مُنهكًا من الداخل، يشعر بأنه كان عُرضة للاتهام بلا حماية، وللإذلال بلا ضرورة، وللشك بلا منطق. هناك من يعيش سنوات وهو يحمل داخله صدمة اللحظة التي وقف فيها متهمًا بلا دليل، وهناك من يتذكر نظرات الآخرين أكثر مما يتذكر الألم، لأن الإهانة لا تُنسى بسهولة.

استمرار هذه الممارسة دليل على قوة الإرث الاجتماعي الذي أحيانًا يتغلب على الفهم، فالبعض يتمسك بـ البشعة لأنها عادة موروثة لا يريد كسرها، والبعض الآخر يراها وسيلة لتهدئة النزاعات أو إثبات موقف أو إسكات شك. لكن تكرار الممارسة الخاطئة لا يحوّلها إلى صواب، ولا يجعلها مقبولة، ولا يمنحها شرعية. العادة مهما ترسّخت لا يمكن أن تقف فوق كرامة الإنسان، ولا يمكن أن تكون أعلى من قيم العدل.

البشعة ليست مجرد عادة باطلة، بل انتهاك واضح لأسس الإنسانية. هي شكل من أشكال الإكراه البدني والنفسي، ومشهد من مشاهد الإذلال العلني، وتمثيل لسلطة تقوم على الخوف لا على الحق. هي ممارسة تُحوّل النزاعات إلى لحظات تعذيب مقنّعة، وتُلغى فيها قيمة الفرد وحقوقه، وتُختزل العلاقات البشرية في اختبار قاسٍ لا يليق بالبشر.

الحقيقة أن البشعة لا تكشف الحقيقة، بل تعطلها. النار لا تستطيع أن تميز بين صدق وكذب، لكنها قادرة على إخافة الجميع. والإذلال لا يفتح بابًا للمعرفة، بل يخلق جدارًا من الصمت. والألم لا يهدي إلى العدل، بل يؤدي إلى الاستسلام. الخلافات تُحل بالحوار، والحقوق تُعرف بالدليل، والكرامة أساس لا يمكن تجاوزه.

الحل يبدأ بالوعي. وعي بأن الإنسان لا يُختبر بالنار، وأن الكرامة ليست مادة للمساومة، وأن الخرافة مهما ارتدت ثوب الحقيقة تبقى خرافة، وأن احترام الإنسان ليس خيارًا قابلًا للتفاوض. الوعي هو الحد الفاصل بين مجتمع يرفض المهانة ومجتمع يتقبلها، وهو جدار الحماية الأول ضد كل ممارسة تقوم على الامتهان.

وفي ختام هذه الرؤية، تتضح حقيقة أساسية لا يمكن الالتفاف حولها: لا نار تكشف صدقًا، ولا حرق يثبت براءة، ولا طقس يُعيد حقًا. الحقيقة ثابتة لا تحتاج إلى أدوات مهينة، والإنسان أثمن من أن يتحوّل إلى ضحية لطريقة تقوم على الوهم، والحق لا يُستخرج بالقسوة. والقاعدة التي جعلها الشرع ميزانًا للعدل واضحة وضوح الشمس: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. بهذه القاعدة تُحفظ الحقوق، وبهذه القاعدة يُحفظ الإنسان.

search