الإنسان بين وعي مفقود وثقافة سمعية مهيمنة
لم تكن أزمة المجتمعات يومًا في نقص المعلومات، بل في غياب الوعي المنهجي الذي يفرز المعلومة، ويضعها في سياقها، ويمنحها معناها الصحيح. فالمعرفة التي لا تمر عبر عقل ناقد تتحول إلى عبء، والثقافة التي لا تُبنى على الفهم تتحول إلى ضجيج. من هنا تتجلى خطورة ما يمكن تسميته بـ«ثقافة السمع»، تلك التي تقوم على التلقي الكسول، والنقل الأعمى، وتُعيد إنتاج الكلام بلا تمحيص، حتى يصبح الشائع أقوى من الصحيح، والمسموع أسبق من المعقول.
إن ثقافة السمع ليست ظاهرة جديدة، لكنها اليوم أكثر فتكًا واتساعًا. فقد كانت في الماضي محصورة في مجالس ضيقة، أما الآن فقد وجدت في الوسائط الحديثة بيئة خصبة للانتشار، فصار الخبر يولد شائعة، وتتحول الشائعة إلى رأي عام، ويصبح الرأي العام سلطة ضاغطة، دون أن يمر بأي غربلة معرفية. وهنا يتراجع العقل خطوة إلى الخلف، ويتقدم الانفعال إلى الصدارة، ويُستبدل التفكير بالترديد، والتحليل بالتأويل السطحي.
الخطير في ثقافة السمع أنها لا تصنع مجرد خطأ معرفي، بل تُنتج خللًا في السلوك. فالإنسان الذي يبني مواقفه على ما يسمع لا على ما يفهم، يتحرك بدافع القلق لا بدافع الوعي، ويصير فريسة سهلة للخوف، والغضب، والتشكيك. وهكذا تنشأ مجتمعات تعيش في حالة توتر دائم، تتغير قناعاتها بتغير النغمة، وتُقاد من أذنها لا من عقلها.
ومن منظور فكري عميق، فإن التثقيف الحقيقي هو النقيض الجذري لثقافة السمع. فالتثقيف ليس تراكمًا للمعلومات، بل تنظيمًا للعقل، وتدريبًا على الشك الإيجابي، وتعليمًا للتمييز بين الرأي والحقيقة، وبين الخبر والتفسير. إن الإنسان المثقف لا يسأل: ماذا قيل؟ بل يسأل: لماذا قيل؟ ومن قاله؟ وفي أي سياق؟ وما مصلحته؟ هنا فقط يتحول الإنسان من مستقبل سلبي إلى فاعل واعٍ.
إن المجتمعات التي تعتمد على السمع أكثر من الفهم، تُصاب بما يشبه العمى الثقافي. ترى الأحداث لكنها لا تدرك دلالاتها، تسمع الأصوات لكنها لا تميز اتجاهها. وفي هذا المناخ تزدهر الشائعات، لأنها لا تحتاج إلى دليل، بل إلى قابلية نفسية للتصديق. وكلما ضعف التعليم النقدي، وكلما تراجع دور الثقافة الجادة، زادت قابلية المجتمع لتصديق أي شيء، مهما بلغ تناقضه مع العقل والمنطق.
ولعل أخطر ما أنتجته ثقافة السمع هو تآكل الثقة. فحين تتعدد الروايات بلا مرجعية، ويختلط الصدق بالزيف، يفقد المواطن ثقته في كل شيء: في الإعلام، وفي المؤسسات، وفي بعضه البعض. وهذا التآكل لا يهدم الوعي فقط، بل يهدم فكرة المجتمع ذاتها، لأن المجتمع لا يقوم إلا على قدر مشترك من الحقيقة المتفق عليها.
إن التثقيف هنا ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. هو خط الدفاع الأول عن العقل الجمعي، والضمانة الوحيدة لبناء إنسان صالح قادر على الفعل الرشيد. التثقيف الحقيقي يبدأ من المدرسة، لكنه لا يكتمل دون إعلام مسؤول، وخطاب ثقافي يحترم عقل المواطن، وفن يطرح الأسئلة بدلًا من تسطيحها. فالعقل الذي يتربى على السؤال لا يبتلع الشائعة، والإنسان الذي يفهم لا يُستدرج بسهولة.
ومن الخطأ الجسيم الاعتقاد أن مواجهة الشائعات تكون بالنفي فقط. فالنفي يعالج العرض، ولا يمس المرض. المرض الحقيقي هو غياب الوعي، وضعف الثقافة النقدية، والاعتماد على السمع بوصفه مصدرًا وحيدًا للمعرفة. ولا يُعالج هذا المرض إلا بإعادة الاعتبار للتثقيف بوصفه مشروعًا وطنيًا طويل النفس، لا حملة موسمية ولا رد فعل طارئ.
في النهاية، فإن المعركة الحقيقية ليست مع الشائعة ذاتها، بل مع البيئة التي تسمح بولادتها وانتشارها. وهذه البيئة لا تُجفَّف إلا بعقل مثقف، ووعي مدرَّب، وإنسان يعرف أن المعرفة مسؤولية لا تسلية. فحين ينتقل المجتمع من ثقافة السمع إلى ثقافة الفهم، ومن ترديد الكلام إلى مساءلته، يكون قد خطا الخطوة الأولى نحو بناء إنسان صالح، لا يُقاد بما يُقال، بل بما يقتنع به بعد تفكير.
الأكثر قراءة
-
توقعات الأبراج اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025، هناك فرص كثيرة متاحة
-
وداعاً داود عبد السيد.. فيلسوف السينما المصرية
-
بعد إعلان اغتياله رسميًا، "حماس" تكشف عن صورة واسم أبو عبيدة الحقيقي
-
بعد إعلان "القسّام" اغتياله رسميا، من هو أبو عبيدة؟
-
موعد مباراة المغرب وزامبيا في كأس الأمم الأفريقية والقنوات الناقلة
-
نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 في جولة الإعادة بسوهاج
-
"اتجوزت 4 مرات ومعايا إعدادية".. نص التحقيقات مع البلوجر نورهان حفظي (خاص)
-
الحصر العددي لأصوات الدائرة الأولى بالفيوم، محمد فؤاد زغلول يتصدر
مقالات ذات صلة
الدفاع عن محمد صبحي دفاع عن فن مصر وريادته
22 ديسمبر 2025 02:47 م
سعر كرتونة البيض جملة اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025، هل تنخفض إلى 100 جنيه؟
13 نوفمبر 2025 03:06 م
الجلابية ليست تهمة يا سيدة "الصورة الجميلة"
08 نوفمبر 2025 07:56 م
أكثر الكلمات انتشاراً