السبت، 16 أغسطس 2025

03:11 م

سامح مبروك
A A

مِثاليّةُ الغرب - حينما يَحذِفون الألف - | خارج حدود الأدب

فَليقفِ الجميعُ احترامًا لهيئةِ المحكمة..

هكذا نادى الحارسُ إيذانًا ببَدء جلسةٍ جديدة - تبدو اعتياديّة - بإحدى المحاكمِ الأمريكيّة، ولكنّ القضيّةَ محلَّ النقاش كانت غايةً في الطرافة، فقد كان في جانبِ الادّعاءِ سيدتان، واحدةٌ تُدعى "أشلي" والأخرى تُدعى "كاترينا"، أمّا جانبُ المُدَّعى عليه فكان يشغله رجلٌ من أصولٍ آسيويّة يُدعى "روبرت"، وقد كان موضوعُ الادّعاء هو مُطالبةُ السيدتينِ الرجلَ بتحمُّل خمسةِ آلافِ دولار تكاليفَ حفلِ إعلان نوع الجنين - الذي هو من المُفترض - ابنُه.

وحينما طُلِبَ من السيدتين شرحُ ملابساتِ الدعوى، انكشف جانبٌ كبيرٌ من الطرافة، ولكنه في الوقتِ نفسِه أضفى المزيدَ من الغموض على الوقائع المذكورة، فوفقًا لما قالته "كاترينا": اتضح أن السيدتين هما زوجتان، نعم يا صديقي، كما تحاولُ الآن أن تُنكِر، هما زوجتان لبعضِهما البعض، كما يسمحُ القانونُ هناك. وذكرتْ كاترينا أنّ هذا الزواج كان نتاجَ علاقةٍ طويلةِ الأمدِ وحُبٍّ متبادل، ولكن سرعان ما أدركت تلك الأسرةُ الصغيرة أنّها في حاجةٍ إلى النُّموّ كأيِّ أسرةٍ طبيعيّة، لكي تُنتِج للعالمِ المزيدَ من الشخصياتِ المتفتحةِ والمحبّةِ مثل الزوجتين. ولكن كيف؟ فهذا لا يمكن أن يتمَّ في أيِّ ظروفٍ طبيعيّة، فمهما كَثُر عددُ البويضات فهي بالتأكيد بحاجةٍ إلى حيوانٍ منويّ.

وللأسف، كان الحلُّ الطبيُّ في التلقيحِ الصناعيِّ وشراءِ حيواناتٍ منويّة غاليةِ التكلفة وبعيدةِ المنال. هنا قررتِ الزوجتان إتمامَ العمليةِ بحسبِ المدرسةِ القديمة - كما وصفتها كاترينا -، ولكن أيُّهما ستكون الأم؟ وهنا أتى القرارُ الثاني المُبهِر: لِمَ أمٌّ واحدة وطفلٌ واحد؟ فلنُنجِبْ طفلين. ولكن هنا ظهر على الطريقِ مطبٌّ آخر؛ فالطفلان، على الرغمِ من زواجِ الأُمَّين - قانونًا -، لن يكون بينهما أيُّ رابطٍ "بيولوجي" حقيقي، فهما في الحقيقةِ طفلان لأُمَّين وأبَين مختلفَين تمامًا. هنا أتت الفكرةُ الأهم - كما قالت أشلي - هذه المرّة: لِمَ لا يكونُ الأبُ واحدًا؟ هكذا سيكون الطفلان نصفَ أخوين، أو هكذا يُوصَفون في أمريكا.

من هنا بدأتْ رحلةُ البحثِ عن الأبِ المُتطوّع، حتى وقعَ الاختيارُ على الصديقِ القديمِ للسيدتين، "المُدَّعى عليه في هذه القضيّة"، السيد "روبرت". وأُبرِمَ اتفاقٌ ثلاثيٌّ يتضمّن أن يقومَ السيد روبرت بما هو مطلوبٌ بحكمِ الفطرة مع السيدتين، حتى ينجحَ في غرسِ بذورِ الجنينين في رحِمي العائلة، ويحتفظَ بحقِّه كأبٍ "بيولوجي" للطفلين، كما تضمنَ الاتفاقُ أن يتكفّل روبرت بتكاليفِ حفلِ إعلانِ نوعِ الجنين، التي قُدِّرت بمبلغِ خمسةِ آلافِ دولار كما ذكرنا. وتمتِ الخطواتُ كما خُطِّط لها بنجاح، وحملتِ السيدتان من روبرت، وتم تحديدُ أنواعِ الأجنة، وأُقيمَ الحفل وسطَ حضورِ العائلاتِ والأصدقاء، حتى أصحابِ العلاقاتِ العاطفيّة السابقة مع الثلاثي. حتى هنا لا خلاف، ولكن المشكلةَ حدثت حينما امتنعَ روبرت عن دفع تكاليفِ الحفل، مما دفعَ السيدتينِ لإقامةِ الدعوى المنظورة ضده.

هنا طلبتِ القاضيةُ من السيد روبرت تقديمَ الدفوعِ والمبرراتِ التي حملته على الإخلالِ بالاتفاق، فأقرَّ بما تقدمتْ به السيدتانِ من أحداثٍ دون إنكار، وأضاف أنّه كان سعيدًا غايةَ السعادة لتلك العائلة - يقصد الزوجتين - وكان أكثرَ سعادةً حينما طلبتا مساعدته في إنجابِ الطفلين. إلا أن ما حدث خلال الحفل المذكور كان السببَ الرئيسيَّ في عدوله عن إبرامِ كافةِ بنودِ الاتفاق. وأردف موضّحًا: أنّه كان من ضمنِ حضورِ الحفل الزوجُ السابقُ للسيدة "أشلي"، وكان هذا طبيعيًّا ومقبولًا من وجهةِ نظره، إلا أن ما أثارَ شكوكه كان التفاعلَ الحميم - زيادةً عن المتوقعِ والمقبول - بين أشلي وزوجِها السابق، وأخذ يصفُ للقاضية ما جمعَهما من رقصٍ داخلَ المطعم، ثم خلوةٍ خارج المطعم، وما شاهده أثناءَ تلصصه على تلك الخلوة من لمساتٍ وحركاتٍ لا تحدثُ إلا بين عشيقين. وعندما أنكر ذلك على أشلي نهرته، بل شككت في رجولتِه، وذلك ما دفعه للشكِّ في أبوّتِه للجنينين، وكأنّه يقسمُ للقاضية: "أقسم بالله ما وْلادي!".

واللافت أن من تولّت الدفاعَ عن أشلي في تلك اللحظة كانت زوجتُها كاترينا، حيث أكدت أن علاقة أشلي بزوجها السابق لم تتخطَّ بضعَ قُبُلاتٍ للتعبير عن المودّةِ والفرح، وأن الأبَ الحتميَّ للطفلين هو روبرت، بل إنها لامت عليه إنكارَه ذلك.

هنا كان لا بُدَّ للقاضية من الحُجّةِ الدامغة التي تنفي أو تُثبت كافةَ الاتهاماتِ المتبادلة بين الأطراف، فقررتِ اللجوءَ إلى نتائجِ تحليلِ إثباتِ نسبِ الطفلين للأب "DNA"، والتي كانت مُجهّزةً مُسبقًا وبشكلٍ سريٍّ لإعلانِ الحكمِ النهائي. ووسطَ ترقُّبِ الجميع، أفرغتِ القاضيةُ محتوياتِ المظروفِ الأول لتعلنَ أن الجنينَ الأول، والذي هو للسيدةِ كاترينا، هو ابنٌ "بيولوجي" للسيد روبرت، وتهللتْ أساريرُ كاترينا التي كانت واثقةً منذ البداية. إلا أن التوترَ كان ما زال يغشى أشلي، فلم تكن تحتملُ صبرًا حتى أفرغت القاضيةُ المظروفَ الثاني وأعلنت نتيجتَه: وهي أن روبرت ليس الأبَ البيولوجيَّ لجنينِ أشلي.

هنا يبتهجُ روبرت لأن شكَّه كان في محلِّه، ويزدادُ التوترُ على ملامحِ أشلي، وتغرقُ كاترينا في حالةٍ من الذهول، بينما تقضي القاضيةُ بتحمُّل روبرت فقط نصفَ تكاليفِ الحفل. وتتجاهل كاترينا الحكمَ والحضورَ بل المحكمةَ ككل، وتنظرُ إلى أشلي بعتبٍ شديد وتقول: لقد كان كل شيءٍ مجردَ كذبة، لقد قلتِ لي إنها كانت قُبلةً عابرة، كيف تستطيعين أن تخونيني؟ ومع مَن؟ مع زوجِكِ السابق؟ كيف حتى تجرئينَ على ذلك؟

ويُسدلُ الستارُ على تلك القضيّةِ الغريبة، التي كانت في بعضِ جوانبِها هزلية، ولكنّ الستار يظلُّ مفتوحًا على جانبي مسرحِ الأحداثِ العالمية، التي يتم من خلالها وعن عمدٍ تصويرُ هذا النوعِ من العلاقاتِ على أنه الحُب، والتفاهم، والتفتُّح، وتقبُّل الآخر، بل إن أغلبَ الأعمالِ التليفزيونيةِ والسينمائية دأبتْ على تصويرِ أصحابِ هذا النوع من العلاقات - كالزوجتين - كأنهم أبطال، فكثيرًا ما ترى رجلَ الدين أو الشرطةَ أو العدالةَ في مقعدِ الشرير، ولكنك في أغلب الأحيان لن ترى هذا النوع الذي نتحدثُ عنه إلا في دورِ الشخص "المثالي".

ولا أرى إلا أن الرفضَ الفِطريَّ والجمعيَّ لتلك الظاهرة قادرٌ على إرساءِ الحق وإن تأخّر ذلك، وحتى إن غاب أو غُيِّب بفعلِ فاعل، ستظلُّ شعلةُ الفِطرةِ السليمةِ والحقِّ مضيئةً للأبد، وإن خَبَتْ لبعض الوقت، وحتى إن تعالتْ مشاعلُ أصحابِ المثاليةِ المزعومة "خارج حدود الأدب".
 

search