
شارلي كيرك.. رجلٌ قنصتْهُ أفكاره| خارج حدود الأدب
لا بُدَّ أنّك قد صادفتَ من قبل مقطعَ فيديو على إحدى وسائلِ التواصُلِ الاجتماعي، لشخصٍ أمريكيٍّ أبيضَ، يجلسُ على منصّةٍ في مكانٍ مفتوحٍ وأمامَهُ جمهورٌ غفير. يتقدّمُ من الجمهور شخصٌ إلى الميكروفون ليُحاورَ ذلك الجالسَ على المنصّة. وغالبًا ما تكونُ الحواراتُ غيرَ ودّيةٍ، بل شديدةَ الصخب.
معظمُ تلك المقاطعِ المنتشرةِ في بيئتنا كانت تحتفي بفكرِ هذا المؤثِّر المناهض لما يُسمّى “مجتمع الميم” بكلّ طوائفِه وظواهرِه التحرّرية. وكانت قوّةُ حجّتِه وفصاحتُه وبلاغتُه، وردودُه الحاسمة على المناصرين لتلك الحركات، سببًا في رواجٍ أكبرَ لتلك المقاطع بين المستخدمين العرب.
ذلك الشخصُ الذي أصبح حديثَ العالم منذ مساء الأمس، هو الناشطُ الأمريكيّ اليميني «تشارلي كيرك». بعد أن قام مجهولٌ بقنصِه في رقبته أثناءَ أحدِ مؤتمراتِه في ولاية «يوتا» الأمريكيّة، وذلك في الساعةِ 12:10 بعد الظهر يوم 10 سبتمبر. وقبل أن تتعاطفَ معه يا صديقي، أو أن تبني أيّةَ فرضيّاتٍ حولَ تلك الحادثة ومسبّباتِها وخلفيّاتِها، دعنا نناقش الحقائقَ الواضحة حول هذا الشخص الجدلي.
تشارلي كيرك هو أمريكيّ يمينيّ إنجيلي أو «بروتستانتي» – وعلينا أن نتذكّر هذه النقطة جيّدًا. وُلد عام 1993 في إحدى ضواحي شيكاغو، وبدأ نشاطَه الشعبوي منذ المرحلة الثانوية في الصحف المدرسية. ساهم ببعض المقالات التي كانت تتبنى الفكر المحافظ والمناهض للنفوذ الليبرالي، ممّا لفت الانتباهَ الإعلامي له في ذلك الوقت المبكّر.
وكانت النقطةُ المفصليّة في حياته، وهو في الثامنةَ عشرة من عمره، حين شارك في تأسيس الحركة اليمينية المحافظة «Turning Point USA»، والتي عُرفت اختصارًا باسم «TPUSA». وتُعتبر مبادئُها الأساسية ركائزَ فكرٍ وعقيدةٍ لتشارلي، بل للحركة الإنجيلية اليمينية ككلّ.
وتتلخّص مبادئُها ومفاهيمُها الأساسيّة في التالي:
- تأييدُ الرأسمالية والأسواق الحرّة، ورفضُ الضرائب المرتفعة.
- ربطُ السياسة بالقيم المسيحية الإنجيلية «البروتستانتية».
- رفضُ كلّ أشكال «التحرّر الجنسي» مثل زواج المثليين أو التحوّل الجنسي، ودعمُ الأسرة التقليدية.
- الدعمُ الكامل وغيرُ المحدود أو المشروط لإسرائيل، باعتبارها الحليفَ الأوّل والأهم سياسيًّا ودينيًّا.
- النظرةُ المتشدّدة تجاه المهاجرين، ورفضُ الهجرة غير الشرعيّة.
- دعمُ حقِّ امتلاكِ السلاح للأشخاص، وهو ما يُعرَف في أمريكا اصطلاحًا بـ«الدفاع عن التعديل الثاني».
ولعلّك، في قراءةٍ سريعةٍ لهذه المبادئ الستّة، تستطيع أن تقفَ معي على طبيعةِ فكرِه الإنجيلي المحافظ، الذي يُشاركه فيه – وللمصادفة – الرئيسُ الأمريكي الحالي دونالد ترامب. فهو أيضًا من المسيحيين الإنجيليين المحافظين. ذلك الفكر الذي يتعارض – وللمفارقة الشديدة – مع أفكار مارتن لوثر، مؤسّس العقيدة البروتستانتية في الأساس، التي قامت بالتمرّد على تحفّظ الكنيسة الكاثوليكية وتحرّرًا من قيودها. فقد استمدّت البروتستانتية اسمَها ونهجَها من التمرّد والتحرّر.
وكانت حركة «TPUSA» بأفكارها ومبادئها المتطرّفة تجاه اليمين السياسي والديني المسيحي، سببًا في صعود نجمِ تشارلي كيرك وتنامي أعداد الداعمين لأفكاره. حيث وصل عدد متابعيه إلى حوالي 30 مليون متابع على منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة. وكان توافقُ هذه الأفكار مع مفاهيم ترامب، إضافةً إلى نفوذ تشارلي وتأثيره الجماهيري، من الأسباب الرئيسيّة للتقارب بين الشخصين. ممّا جعل شارلي واحدًا من أهمّ الداعمين لترامب في حملاته الانتخابية. لكن في الوقت ذاته، ذلك التطرف خلق له الكثير من الأعداء والمناهضين الليبراليين واليساريين وغيرهم.
كرّس بعد ذلك شارلي حضورَه اللافت في المجتمع الأمريكي، عبر المشاركات المستمرة في الإعلام ووسائل التواصل والبودكاست، بالإضافة إلى اللقاءات الجماهيرية المفتوحة التي كانت تميّزه. واللافت هنا – كما ذكرنا في افتتاح المقال– أنّه في زمرة آرائه المتطرّفة لم تبرز في مجتمعاتنا إلا آراؤه المناهضة لمجتمع الميم. وربّما لتوافقها مع مفاهيمنا الشرقية. بينما لم تنتشر مواقفه الداعمة لإسرائيل، ولتجويع أهلنا في غزّة، بل ودعم قتلهم وإبادتهم، إلا بعد مقتله الدراماتيكي.
وربما تُعزّز تلك المقاربة طريقةَ عملِ خوارزمياتِ منصات التواصل، بل والإعلام ككلّ، وكيف تعرض على المتلقّي ما يريد أن يشاهده، وتطرحُ عليه جوانب منقوصة، وقد تكون مزيفة، من الحقائق.
وفي أبريل عام 2023، وفي إحدى ساحات ولاية «يوتا»، وقف شارلي كعادته يدافع عن حقِّ المواطنين المدنيين في امتلاك السلاح. وذلك في أعقاب حالاتٍ متعددةٍ لإطلاق النار في المدارس الأمريكية. وهنا أتت تصريحاته الشهيرة والمثيرة للجدل، التي تتلخّص في أنّ هؤلاء القتلى هم ثمنٌ بسيط لحقِّ المواطن في امتلاك السلاح والحفاظ على التعديل الثاني.
وبعد هذا الحديث بسنةٍ وبضعة شهور، في إحدى ساحات نفس الولاية «يوتا»، وعلى بُعد كيلومترات قليلة من مكان حديثه عن حقِّ المدنيين في حمل السلاح، يأتي مواطنٌ مدنيٌّ يحمل بندقية قنص – كما تخوِّل له حقوقُه بحسب شارلي بالطبع – ليقتل شارلي برصاصةٍ مباشرة في الرقبة. لا، بل إنّه قنصَ شارلي بأفكاره ذاتِها، أمام الجموع من مؤيّديه ومحاوريه. لتُسجّل الكاميرات واحدةً من أكثر اللحظات استقطابًا في التاريخ الأمريكي.
ويفتح هذا الحادثُ البابَ على مصراعيه للآراء والتكهنات، بل ونظريات المؤامرة: فتجد الناشط الشرقي الذي نشر حديثَه بالأمس المناهضَ لجماعة الميم باحتفاءٍ كبير، ينشر اليوم أحاديثَه ضد الفلسطينيين فرحًا في مقتله.
وتجد اليمينَ المحافظَ يشير بأصابعِ الاتهام نحو اليسار الليبرالي. وتجد دعاةَ نظرية المؤامرة يلمّحون إلى كون إسرائيل نفسها قد قامت بتصفيته خوفًا من انقلابه عليها. تقلباتٌ كثيرة وحادّة، تفتح المجال نحو تساؤلاتٍ أكبر:
- هل يُعتبَر مقتلُ شارلي الآن مجرّدَ ثمنٍ زهيد لدعم حقِّ المدنيين في حمل السلاح؟
- هل سينتفض اليمينُ المحافظُ لدماء شارلي، بينما ما زال يرقص – كما كان يرقص شارلي بالأمس– على دماءِ الآلاف من أبرياء فلسطين؟
- هل سيفرح الليبراليون، ودعاةُ حريةِ الرأي، والحريةِ الجنسية، وكلّ أنواع الحرية، بمقتل شارلي ضحيّةً لأفكاره وآرائه؟
- هل فعلًا قنصتْه أفكارُه؟ أم تطرّفُه؟ أم تطرّفُ أعدائه؟ مَن الجاني الحقيقي ومَن المجني عليه؟
أسئلةٌ تدور في فلك المجهول، تمامًا كحالِ القاتل. فهو – إلى حين كتابة تلك الكلمات– ما زال مجهولًا. ولعلّ القليل من العُقَد والألغاز قد تتكشّف حين القبض على القاتل. لكنّ الجاني الحقيقي سيظلُّ دومًا مجهولًا عن عمد. وسيظلّ الاستقطابُ والتطرّفُ في مسعاه المذموم للأبد «خارج حدود الأدب».

الأكثر قراءة
-
هل تجمع الابنة بين نصيبها في معاش والدها ودخلها من العمل؟
-
اغتيال تشارلي كيرك يهز أمريكا وترامب يتوعد "اليسار الراديكالي"... القصة الكاملة
-
مصر الأولى عالميا في الولادة القيصرية.. هل يتحول الخيار الطبي لتجارة؟
-
سبب انقطاع المياه في التجمع الخامس اليوم.. بيان عاجل
-
مريم تستغيث: فقدت أسرتي في حادث العلمين وعمّي حرمني من الميراث
-
شارلي كيرك.. رجلٌ قنصتْهُ أفكاره| خارج حدود الأدب
-
"كنت بعمل Lipsing".. محمد فاروق شيبا يتنصل من "بطاقة الميت" بالتحقيقات (خاص)
-
"يا رب يجيلك صليبي".. جملة أشعلت مشاجرة إمام عاشور مع عمال التجمع

مقالات ذات صلة
الكائن المرموط| خارج حدود الأدب
08 سبتمبر 2025 12:25 م
بروتوكول حَنبَعَل | خارج حدود الأدب
31 أغسطس 2025 08:58 م
براءة البربر| خارج حدود الأدب
28 أغسطس 2025 12:56 م
مِثاليّةُ الغرب - حينما يَحذِفون الألف - | خارج حدود الأدب
15 أغسطس 2025 09:06 م
أكثر الكلمات انتشاراً