الأربعاء، 17 سبتمبر 2025

02:28 ص

"عم ممدوح" حارس قلعة "المكواة الرجل" في الفيوم: 45 سنة شقى برزق حلال

"عم ممدوح"

"عم ممدوح"

على أطراف مركز سنهور بمحافظة الفيوم وبين الأزقة الضيقة التي يكسوها عبق الماضي يجلس “عم ممدوح” أمام ورشته الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أمتار، ولكنها تحمل بين جدرانها تاريخًا ممتدًا لعشرات السنوات.

أمام  الرجل الستيني تقبع مكواة ضخمة، عرفت قديمًا بـ"المكواة الرجل" يرفعها بصعوبة فوق ثياب الصوف والعبايات الرجالي الثقيلة متحديًا الزمن والمرض في محاولة للحفاظ على مهنة أوشكت على الاندثار.

مهنة الأجداد تقاوم المكاوي الكهربائية والبخار

“عم ممدوح” قال لنا بصوت متهدج ووجه يغلب عليه الوقار: “أنا بشتغل بالمكواة الرجل بقالى أكتر من 45 سنة، يعني من وأنا عمري 12 سنة، كنت حريص أصرف منها على ولادي وأربيهم من عرق جبيني برزق حلال”.

وتابع حديثه لـ"تليجراف مصر" بقوله: "شغال على المكواة في عز الصيف والحر والعرق المالح بينزل في عينيا، كان نفسي أشوف نتيجة الشقى والتعب ده في ولادي، لأن دي شغلتي الوحيدة اللي ورثتها من أبويا وجدي دي مهنة الشقاء والتعب لكن كل قرش بييجي منها حلال رغم إن الدنيا اتغيرت والمكاوي الكهربائية والبخار غزت البيوت والمحلات، بس لسه فيه ناس ليهم ذوق خاص وما يرضوش غير بالمكواة الرجل".

"المكواة الرجل بالنسبة لي مش مجرد مصدر رزق بل إرث عائلي وعلامة بارزة من علامات التراث الشعبي في الفيوم، واسمها بيرتبط بالملابس البلدية الثقيلة المصنوعة من الصوف والقطن الخشن، التي لا تصلح معها المكاوي الحديثة".. "عم ممدوح" لخص رحلته مع المكواة الرجل.

رغم تقدمه في العمر إلا أن “عم ممدوح” لا يزال يواصل عمله متحديًا آلامه فقد خضع لسبع عمليات جراحية في العمود الفقري بسبب العمل المرهق الممتد لسنوات، وحمله المكواة الحديدية الثقيلة بجلد وصبر.

قال بابتسامة رضا: "المكواة دي وزنها تقيل مصنوعة من الحديد الخام من أيام الإنجليز ولازم تتحط على النار نص ساعة عل الأقل قبل ما أبدأ الشغل.. والجلابية الواحدة ممكن تأخذ ساعة كي كاملة من أول تسخين لحد ما أخلصها.. في اليوم بعمل حوالي عشر جلاليب حسب صحتي.. الشغل مرهق لكن أنا راضٍ".

زبائن أوفياء

ورغم غزو المكاوي الكهربائية والبخار المنازل حكى “عم ممدوح” بفخر: "الكبار في السن أكتر ناس متمسكين بينا.. بيجيبوا عبايات صوف أو جلاليب تقيلة ما ينفعش معاها غير المكواة الرجل.. الشباب قليل جدًا منهم اللي ييجي دلوقتي أغلبهم عايزين السهل والسرعة لكن اللي جرب شغل المكواة الرجل عمره ما يرضى بغيرها".

زبائنه يرون في عمله ليس مجرد خدمة بل قيمة تراثية وحنينًا إلى الماضي فالملابس التي يكوّيها “عم ممدوح” تخرج بشكل مختلف كما يصف الكثيرون بنعومة ودقة لا تضاهيها المكاوي الحديثة.

أثر تاريخي في ورشة صغيرة تواجه الانقراض

المكواة التي يعمل بها “عم ممدوح” ليست في رأيه مجرد أداة عمل بل قطعة أثرية عمرها أزمنة ودهور، وهي مصنوعة بالكامل من الحديد، وتزن عدة كيلوجرامات وتحتاج إلى مجهود عضلي كبير لرفعها وتوجيهها على الثياب.

قال وهو يربت عليها بحنان: "المكواة دي لو دخلت متحف هتبقى شاهد على زمن كامل دي تاريخ من أيام الانجليز أبويا قال لي كدا ولسه شغالة معايا من أيام أبويا".

ورغم بساطة شكلها إلا أنها تحمل قيمة تراثية وتاريخية لا تقل عن أي قطعة فنية فهي تجسد حياة كاملة من الكفاح والعرق على مر العصور.

عزوف الشباب.. مهنة مرهقة

المهنة التي تتطلب صبرًا وجلدًا لم تعد تجذب الجيل الجديد، هكذا قال “عم ممدوح” مضيفًا: "الشباب دلوقتي مش عايز يتعلم الشغلانة دي بيعتبروها مهنة صعبة وبتجيب أمراض زي الغضروف والفتاق السري عايزين حاجة سهلة وفلوسها كتير وسريعة عشان كده المهنة بتموت قدام عيني".

محاولة أخيرة

غياب المتدربين من الشباب يعني أن مهنة "المكواة الرجل" مهددة بالاندثار في المستقبل القريب فما يقوم به “عم ممدوح” اليوم أشبه بمحاولة أخيرة للحفاظ على ما تبقى من إرث الآباء والأجداد.

شهادة الأهالي.. وفاء لزمن مضى 

أهالي سنهور يعرفون جيدًا قيمة “عم ممدوح” بل يرونه كنزًا بشريًا حيًا؛ فالحاج أبرايم أبو قتله أحد زبائنه القدامى قال: “أنا بجيب ليه الجلاليب والعبايات الصوف من وهو عنده 12 سنة وكان بيساعد والده في شغل المكواة الرجل مالوش زي.. صحيح بياخد وقت لكن اللبس بيطلع مظبوط ومكوي صح ممكن يفضل نضيف من السنة للسنة اللي بعدها.. جربت المكاوي البخار الجديدة بس متجيبش نفس النتيجة بمجرد ما اتوضى وأصلي الجلابية تتكرمش تاني”.

أما السيدة “أم حسن” وهي ربة منزل فوصفت عمل “عم ممدوح” بأنه يعيد لها ذكريات الزمن الجميل ولا تستطيع الاستغناء عن مثل تلك العادة القديمة.

في ظل التطور السريع أصبحت المكاوي الكهربائية والبخارية خيارًا أولًا للأسر نظرًا لسرعتها وسهولتها كما أن محال الغسيل والكي الحديثة تقدم خدمات سريعة ومريحة بأسعار تنافسية ما جعل الإقبال على "المكوجي الرجل" يتضاءل تدريجيًا.

لكن رغم ذلك هناك فارق لا يلمسه إلا من اعتاد على "المكواة الرجل" فهي تمنح الملابس مظهرًا متينًا، وكأنها تعيد تشكيلها من جديد بينما المكاوي الحديثة قد تناسب الأقمشة الخفيفة ولا تجدي نفعًا مع الصوف والعبايات الثقيلة.

search